د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
فيتو أمريكا واستكبار القوة مقال بقلم د. راغب السرجاني، يوضح فيه أن حق الفيتو لا يحكمه ميزان الحق وإنما ميزان القوة والاستكبار لحماية إسرائيل، فما الحل؟
يندهش السذج من الناس، وقد نرى بعض المحللين السياسيين - كذلك - مندهشين، ومنددين ومستنكرين للفيتو الأمريكي على قرارٍ لمجلس الأمن بإدانة هجمات إسرائيل الوحشية على بيت حانون، وما خلَّفته من شهداء، ودمار، وتخريب، وكأنهم – هؤلاء السذج والمحللين - كانوا ينتظرون من أمريكا أن تقف بجانب المظلوم، وتلتزم بالحق والعدل.
ولكن القارئ الجيد الواعي للتاريخ، يعلم أنه كان من المستحيل أن تتخذ أمريكا موقفاً أفضل من هذا الموقف، بل إن البديل أن تتخذ أمريكا موقفاً أسوأ من ذلك، فحركة التاريخ تحمل من أمثال هذه المواقف آلافًا، وقفت فيها القوة ضد الحق مستكبرةً، وممثلة لظلم القوة، أو قوة الظلم.
لقد بدأ تاريخ العداء المرير منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام؛ فوقفت قوة الأغلبية ضد الحق الذي جاء به نوح عليه السلام وآمن به القليل.. صراع طويل لمدة قرون، أوضح بشكل جليٍّ أن الصراع بين قوى الظلم والاستكبار من ناحية، وبين قوة الحق من ناحية أخرى.. صراع مرير وطويل طول الحياة البشرية على الأرض.
وفي عهد جميع الأنبياء ظهر ذلك الصراع، قوم عاد وثمود بما أُوتوا من قوةٍ وجبروت وقفوا ضد الأنبياء: هود وصالح عليهما السلام ومن آمن معهما، ورفضوا الإيمان حتى جاء أمر الله؛ فأهلكهم بكوارث لم تفلح قوتهم في صدها كثيراً أو قليلاً.
وقد ظهر العداء ضارياً في قصة سيدنا موسى مع فرعون وقومه، إذ تمثل العداء في تخطيطهم لقتل سيدنا موسى عليه السلام، ثم في تكذيبه عندما جاءهم داعِيًا للإيمان، ومحاولة إبطال دعوته بالسحر، فلما كانت المفاجأة وآمن السحرة، وارتد كيد فرعون وملئه في نحورهم، كانت القوة الحربية هي رمز العداء والاستكبار حيث خرج الجيش الفرعوني العرمرم للفتك بسيدنا موسى ومن معه، لولا أن جاء نصر الله بإهلاك القوم الكافرين.
ولكن هل كان ذلك العداء جهلاً منهم بالحق، ولعدم وضوح الرؤية لديهم؟
كلا، لم يكن الأمر كذلك، بل كانوا يعلمون أن ما يدعوهم إليه سيدنا موسى هو الحق الذي لاشك فيه، ولكنه الاستكبار كما قال تعالى:[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] {النمل:14}.
ظل الاستكبار هو الحائل الرئيسي بين أصحاب القوة والإيمان بالحق على مدار العصور، رغم دعوة جميع الأنبياء، حتى جاء عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ صدر من كل مستكبر عاتٍ - رَفَضَ الإيمان، وأصرَّ على الكفر – ما يدل على أنه يعلم الحق، ولكن الكبر هو الذي يمنعه، ظهر هذا في قول أبي جهل للأخنس بن شريق عندما سأله رأيه فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن؛ فقال:"تنازعنا نحن وبنو عبد مناف ٍالشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: مِنَّا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه! واللهِ لا نسمع منه ولا نصدقه".
إنه الكبر - إذن - والرغبة في السيادة والشرف، وذلك ما دفع كل من كان مثله من سادة قريش للاستمساك بالكفر رغم معرفتهم بالحق، كعتبة بن ربيعة الذي قال في القرآن:"سمعت قولاً ما سمعتُ مثلَه قَطُّ، واللهِ ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فواللهِ ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكُه مُلْكُكُم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به"، ومع ذلك خرج عتبة في غزوة بدر لقتال المسلمين، وقتل في المبارزة بيد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، فما الذي أخرجه؟!! إنه الاستكبار.
ويأتي حيي بن أخطب سيد بني النضير من اليهود؛ ليوضح ذلك الدافع بأظهر عبارة عندما سأله أخوه ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته - والله - ما بقيت!
ظنَّ – لاستكباره - أن قوته تمكنه من إطفاء نور النبوة، فلما سقط في أيدي النبي صلى الله عليه وسلم بعد حروب وعداوة وكيدٍ منه، وأُخِذَ للقتل، نظر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "أما - واللهِ – ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذِلِ اللهُ يُخْذَلْ"، وهذا اعتراف صريح منه بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، ولكن الكِبْرَ يمنعه من اتباعه.
كان استكبار القوة – إذن – هو ما دفع هؤلاء وغيرهم لمواجهة الحق، وعداوته والكيد له في كل موطن، واستمر ذلك الدافع عبر التاريخ، فلم يجرؤ الصليبيّون على مهاجمة بلاد الإسلام إلا عندما شعروا بقوتهم وضعف المسلمين، فاجتاحوا المشرق الإسلامي، وزودهم استكبارهم بقدرة كبيرة على سفك الدماء، وامتهان الحرمات وانتهاكها، فالمستكبر لا يرى للضعيف فضيلة ولا حرمة ولا ذمة [لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة]. وكذلك كان التتار الذين قتلوا الملايين من المسلمين في شهور قلائل، ونهبوا خيرات كل مكان ذهبوا إليه في بلاد الإسلام.
ثم جاء العصر الحديث، وازدهار عصر الاستعمار الأوروبي الصليبي للعالم الإسلامي، وكان استكبار القوة هو الدافع أيضاً لهذا الكم من الدماء التي أُسِيلَتْ، والأعراض التي انتهكت، والخيرات التي نُهِبَتْ.
وكان للاستعمار الجديد، وما وصل إليه من غرور القوة دور في التطور الجديد الذي يرسخ للاستكبار، وهذا التطور هو وضع قواعد دائمة للسيطرة على العالم كله، خاصة الإسلامي، وتمثَّلَ ذلك في إنشاء الأمم المتحدة، بمنظماتها المختلفة، وعلى رأسها مجلس الأمن الذي يُعتَبَرُ مجلسَ إدارة العالم، وهذه المنظمات هي المخلب الذي يسيطر به الأقوياء المستكبرون –أعداء الإسلام في العصر الحديث- على العالم كله.
دشنت دول الاستكبار العالمي لنشأة لأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأنشأت مجلس الأمن، الذي يتكون من خمسةَ عشرَ عضواً، ولكي تعطي نفسها أداةً لفرض هيمنتها على الشعوب قامت تلك الدول باختراع حق الفيتو (النقض) لها وحدها، وهي خمس دول كلها ذات عداوة للإسلام طويلة أو قصيرة، وهي (أمريكا- الاتحاد السوفيتي(روسيا) - إنجلترا - فرنسا - الصين).
وحق الفيتو يَمنحُ هذه الدول حق النقض لأي قرار تتخذه بقية الدول، فيصبح القرار كأن لم يكن، وقد كان للولايات المتحدة الأمريكية نصيب الأسد في استخدام حق الفيتو في الصراع الإسلامي الصهيوني (بالطبع ضد مصلحة المسلمين) فقد استخدمته 82 مرة معظمها لحماية إسرائيل من (مجرد) التنديد.
فحق الفيتو إذن لا يحكمه ميزان الحق، وإنما ميزان القوة، فمن الساذج الذي ما زال مندهشًا؟!!
إننا من خلال هذه التِّطوافة العاجلة في صفحات التاريخ نتبين أنه لا أمل في السعي وراء حقوقنا المسلوبة في أروقة الأمم المتحدة، وإنما يجب أن نقول كما قال الشافعي رحمه الله:
ما حَكَّ جِلدكَ مثلُ ظُفرِكْ فتَوَلَّ أنت جميعَ أمرِكْ
التعليقات
إرسال تعليقك