التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يشير المقال إلى أهم ملامح النظام التعليمي في الأندلس وأشهر الأماكن التعليمية التي نشرت العلم وخرَّجت العلماء، مثل المساجد وبيوت الفقهاء..
أهم مقتطفات المقال
وليس من شكٍّ في أنَّ التعرف على النظام التعليمي يُعتبر -كما يُقرِّر علماء التربية- مدخلًا بالغ الأهمية للتعرُّف على تاريخ أيِّ خطابٍ تربويٍّ وتقويم آثاره ومعطياته، وإذا كان أيُّ نظامٍ تعليميٍّ يتشكلَّ من عناصر ماديَّة وأخرى نظريَّة تتضافر جميعها في تأدية الخطاب التربوي المعتمد وبلورة أبعاده العقلية والعلمية والاجتماعية، فإنَّ الحديث عن نظام التعليم عند الأندلسيِّين يقتضي -شأن الحديث عن أيِّ نظامٍ تعليمي- الوقوف عند مكونات هذا النظام من أمكنة التعليم ومراحله ومناهجه ومقرراته وأساليبه وآداب المعلم والمتعلم، وهلمَّ جرَّا.
من المعلوم أنَّ أيَّ خطابٍ تربويٍّ لا بد له كي يوصل فحواه ويبلغ مغزاه، أن يعتمد (نظامًا) تعليميًّا يُمكِّنه من تحقيق غايته في صياغة وجدان مخاطبه وتشكيل عقليَّته وفق قيمه ومثله؛ لتكون لثقافتها -أي القيم والمثل- بوجهيها النظري والإجرائي، أي بوصفها (معرفة) تجريدية و(ترجمة) تطبيقية لها، الهيمنة على (علم) المخاطب و(عمله) أي على ثقافته بوجهيها المذكورين آنفًا.
التلاحم بين العبادة والمعرفة
وبادئ ذي بدء ينبغي التذكير بأنَّ الدعوة إلى عقيدة التوحيد وإلى القراءة -أي المعرفة- تلازما منذ اللحظات الأولى من نزول الوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلَّا كذلك متلازمين أثناء الفتوح الإسلامية لمختلف الأقطار في المشارق والمغارب ومن بعد الفتوح، وكذلك رأيناهما في الأندلس حين فتحها ومن بعد فتحها، أمَّا حين الفتح فيتمثَّل فيما ألمحنا له من تصدُّر الفاتحين للأندلس من حملة كتاب الله تعالى وحفظة حديث نبيه صلى الله عليه وسلم لتعليم أبناء الجزيرة الذين اعتنقوا الإسلام أصول العقيدة وأمور الدين.
وأمَّا بعد الفتح فيتجلى لنا، ومنذ فترةٍ باكرةٍ من حياة الأندلس الإسلامية، في هذه المساجد التي أُسِّست على تقوى من الله ورضوان، هنا وهناك من أرض الجزيرة حيث التحمت تحت سقوفها العبادة والمعرفة وتلازمتا على مرِّ الحقب والعصور تبلور الصلوات، فريضتها والنوافل من رواتب وغير رواتب، مثل العقيدة وقيم الشريعة، وتكرس حلقات المعرفة الوعي بهذه وتلك في النفوس والعقول، ولاستثمار هذا التلاحم بين العبادة والمعرفة في التمكين للثقافة المنبثقة عنهما لدى المخاطب كان من الضروري إيجاد (نظام) تعليمي يتوسَّل بمختلف الآليات في إنجاز الفعل التربوي وتحقيق مقاصده وغاياته.
وليس من شكٍّ في أنَّ التعرف على النظام التعليمي يُعتبر -كما يُقرِّر علماء التربية- مدخلًا بالغ الأهمية للتعرُّف على تاريخ أيِّ خطابٍ تربويٍّ وتقويم آثاره ومعطياته، وإذا كان أيُّ نظامٍ تعليميٍّ يتشكلَّ من عناصر ماديَّة وأخرى نظريَّة تتضافر جميعها في تأدية الخطاب التربوي المعتمد وبلورة أبعاده العقلية والعلمية والاجتماعية، فإنَّ الحديث عن نظام التعليم عند الأندلسيِّين يقتضي -شأن الحديث عن أيِّ نظامٍ تعليمي- الوقوف عند مكونات هذا النظام من أمكنة التعليم ومراحله ومناهجه ومقرراته وأساليبه وآداب المعلم والمتعلم، وهلمَّ جرَّا.
ونبدأ فنفرد أولها، وهو أمكنة التعليم.
المساجد مراكز تعليمية في الأندلس
عرف أهل الأندلس منها أنواعًا وأشكالًا كان في مقدمتها المسجد؛ فقد بادر الفاتحون والولاة إلى بناء المساجد ليعمرها من آمن بالله يُؤدِّي فيها صلواته ويتلقى أصول عقيدته وأحكام شريعته، وما زالت المساجد -منذ أن بنى موسى بن نصير مسجد الرايات بالجزيرة الخضراء- تتكاثر حتى انتهت على أيام عبد الرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك -كما يقول المقري- كثيرًا حتى عدت بالآلاف في عصر الخلافة وما تلاها من عصور؛ بل ذكر بعضهم أنَّ قرطبة وحدها اشتملت في هذا العصر على ما يُقارب أربعة آلاف مسجد.
ولا شكَّ أن في اهتمام الأمراء المروانيِّين بابتناء المساجد وحرص رعيَّتهم على الاقتداء بهم في ذلك حتى وجدنا جواريهم يتولَّعن كذلك بابتنائها، كان له الأثر البعيد في الدفع بحركة التربية والتعليم إلى الأمام؛ وذلك لنهوض هذه المساجد -من أول يوم أُسِّست فيه- بأداء رسالتها التربويَّة والتعليميَّة على أيدي الفقهاء والعلماء الذين كان بعضهم يجمع فيها بين الإمامة والإقراء، أو بين الخطبة والتدريس، أو بين هذه المهمات الثلاثة.
ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك نجتزئ منها بالإشارة إلى بعضها مثل؛ أبي القاسم خلف بن إبراهيم المعروف بابن النحاس (ت: 511هـ) كان يُقرئ في جامع قرطبة ويخطب في منابرها مدَّةً طويلة، ومثله أبو القاسم عبد الرحمن بن رضا (ت: 545هـ) الذي كان يُقرئ القرآن بالمقارىء الثلاثة بجامع قرطبة ويخطب بها، ومثلهما أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي رجاء البلوي كان يتولى الإمامة والخطبة والإقراء بجامع المرية.
حلقات جامع قرطبة
وعرفت حواضر الأندلس من هذه المساجد جوامع رحيبة الأبهاء وسيعة الأنحاء، واعتبر جامع قرطبة واسطة عقدها؛ فقد "اهتمَّ به الخلفاء المروانيُّون، فزادوا فيه زيادةً بعد زيادة وتتميمًا بعد تتميم حتى بلغ الغاية، ويعجز عن حسنه الوصف".
واستقطبت حلقاته العلميَّة -على توالي عصوره- مشاهير الفقهاء وأكابر المحدِّثين ومبرزي علماء العربية، يبثون فيها ما يحملون من علوم ومعارف وفنون، وذكر أسماء هؤلاء وأولئك هو يطول، لكن لا بأس من التمثيل له، فبفضل حلقات الحافظ الراوية محمد بن وضَّاح (ت: 287هـ)، والفقيه الإمام أبي الوليد محمد بن رشد (ت: 520هـ)، والراوية المسند أبي الحسن علي بن عيسى الغافقي (ت: 616هـ)، وأمثالهم، وهم كثير، في رحاب هذا الجامع غدت قرطبة "وطن أولي العلم والنُّهَى، وينبوع متفجر العلوم، وقبة الإسلام، ومقر السنة والجماعة". وهذا هو ما جعل الأندلسيِّين يعدون جامعهم القرطبي ثالث المساجد الجوامع على وجه الأرض.
حلقات العلم والإقراء في مساجد الأندلس
ولم تكن جوامع بقية الحواضر من مثل إشبيلية وبلنسية ومرسية وغرناطة ومالقة وغيرها بأقل إسهامًا في الحركة التعليمية. فقد كانت جميعها تزدان بالشيوخ ذوي التفنن والاستبحار في العلوم والمعارف أمثال؛ أبو بكر بن العربي (ت: 543هـ) الذي كان يأخد عنه الطلبة الحديث والأصول والتفسير في جامع إشبيلية. وأبي بكر أحمد بن جزي (ت: 583هـ) وكان ينتصب لإقراء علمي الحساب والفرائض في جامع بلنسية، وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي المرسي المعروف بابن برطلة (ت: 599هـ) كان يُقريء الحديث والفقه والعربية والأدب في جامع مرسية، وأبي الحسن علي بن عمر القيجاطي (ت: 730هـ) أقرأ بمسجد غرناطة الأعظم العربية والأدب وغيرهما، وأبي سعيد فرج بن لب (ت: 782هـ) كان يدرس بالمسجد المذكور الفقه والحديث والأصول وغير ذلك من فنون الأدب وعلوم اللسان، وأبو إسحاق إبراهيم بن فتوح العقيلي (ت: 867هـ)كان يحلّق في الجامع نفسه يدرس فنونًا من العلم وبخاصَّة التفسير والحديث والمنطق والمعاني والبيان، ومحمد بن أحمد الغساني (ق 8هـ) كان يدرس الفقه وعلوم اللغة والفرائض في جامع مالقة، وأبي عبد الله محمد بن أحمد الجعدالة كان يقريء الفقه والأصول بالمسجد الأعظم في مدينة المرية، وحسين بن محمد الأنصاري (ت: 563هـ) كانت له حلقة عظيمة يعلم فيها القراءات.
وإلى هذه المساجد الجوامع انتشرت في هذه الحواضر وفي غير هذه الحواضر من المدن والقرى أعداد كبيرة من المساجد لا سبيل إلى حصرها، مثل: مسجد العطارين، ومسجد ابن السقاء، ومسجد أبي داود سليمان بن داود بباب الجوز، ومسجد سرور، ومسجد المصحفي، ومسجد سلمة، ومسجد الزجاجين في قرطبة، ومن مثل مسجد الصباغين، ومسجد ابن الرماك، ومسجد ابن بقي، ومسجد عمر بن عدبس في إشبيلية، ومن مثل مسجد الكوثر وجامع البيازين، وجامع الحمراء في غرناطة، ومن مثل مسجد العطارين، ومسجد القاضي محمد بن سليمان الأنصاري المالقي، ومسجد القاضي عبد الله بن أحمد الوحيدي، ومسجد الغبار في مالقة، ومسجد رحبة القاضي، ومسجد ابن حزب الله في بلنسية، ومسجد الجنة في بسطة، ومسجد أيوب بن نوح الغافقي في شاطبة إلى أمثلة أخرى يتعذر حصرها كما ألمحنا.
ففي هذه المساجد وفي غيرها ممَّا لم نذكر كان شيوخ العلم يحلِّقون لإقراء فنونه وإسماع ضروبه في دروسٍ حافلةٍ، نمثِّل لها بدروس المقرئ أبي داود سليمان بن يحيى في القراءات بمسجده بقرطبة، ودروس الأستاذ الماهر النحوي أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الرماك في النحو واللغة والأدب بمسجده بإشبيلية، ودروس أحمد بن محمد الأنصاري في الفقه بمسجد العطارين بمالقة، ودروس أبي إسحاق إبراهيم بن فتوح في الفقه وغير الفقه، مما كان له به تمكن من علوم العربية والأدب بمسجد الكوثر بغرناطة.
مكاتب تعليم الأطفال والصبيان
وبمحاذاة المساجد وحولها استحدث الأندلسيون أمكنة قصروها على تعليم الأطفال والصبيان خاصة. ويظهر أن الباعث لهم على ذلك كان نابعًا من حرصهم على رعاية حرمة بيوت الله وكراهتهم أن يُساء إليها، ولو بغير قصد، من قبل الصبيان الذين "لا يتحفظون من النجاسات بأرجلهم ولا من ثيابهم"، على حد تعبير ابن عبدون.
وقد كان الواحد من هؤلاء إذا عقل سارع أبواه فبعثا به إلى المكتب، وكان ذلك تقليدًا أخذ به أهل الأندلس واستحسنه علماؤهم، ومن أشهر ماعرفناه من المكاتب، وهذا هو الاسم الذي عُرفت به أمكنة تعليم الصبيان، تلك التي بناها الخليفة الحكم المستنصر حول مسجد قرطبة الجامع وصورها ابن شخيص بقوله: "كما ابتنى أزيد من عشرين مكتبًا حول مساجد أخرى في أرباض قرطبة، عين في هذه وتلك طائفة من المؤدِّبين يحفظون كتاب الله تعالى للصغار وبخاصة أبناء الفقراء".
وقد نوه ابن عذاري بصنيع الخليفة الحكم فقال: "ومن مستحسنات فعاله وطيبات أعماله اتخاذه المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حوالي المسجد الجامع وبكل ربض من أرباض قرطبة، وأجرى عليهم المرتبات وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم".
ومثل هذه المكاتب كانت تنتشر في كافة أنحاء الأندلس، حواضرها وبواديها، وظلت كذلك إلى آخر عهد الأندلس بالحكم الإسلامي؛ فقد عُرف عن سلاطين بني نصر ندب "الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم فذلك أصل دينهم"، وعُرف عنهم كذلك حرصهم -مع اشتداد الحملة الصليبية على غرناطة- على أن يظل "الصبيان في المكاتب تُدرَّب على مواقف الشهادة وتُعلَّم".
وفي هذه المكاتب كان الصبيان يمضون أعوامًا يتعلمون القراءة والكتابة ويستظهرون القرآن كتبًا ثم حفظًا ثم تجويدًا بحرفٍ أو بأكثر من حرف، حتى إذا حذقوا ذلك وأتقنوه أذن لهم مؤدِّبوهم في الانتقال إلى حلقات شيوخ العلم في المساجد والجوامع، وبذلك يطوون مرحلة تعليمية ويفتتحون أخرى.
ومن تمام الفائدة أن نُشير هنا إلى أنَّ الآباء كانوا يبتهجون غاية الابتهاج لاستظهار أبنائهم القرآن الكريم أو حفظهم بعض سوره فيحتفون بهم لذلك، ويُقيمون لهم حفلًا يدعون إليه لداتهم وأصدقاءهم.
وقد صور لنا الشعر هذه الدعوة فيما كتب به ابن الخطيب إلى القاضي الشريف السبتي الغرناطي وقد استدعى أولاده إلى حذقة أحد أولاده:كما صور الشعر الذي جرت العادة عندهم بكتابته على لوح الصبي الحاذق المحتفى به مشاعر الصبي الحاذق على نحو ما نقرأ عند ابن الجياب في قوله: "ومن هذا الشعر ما قاله ابن الخطيب وكتب على لوح حاذق من أولاد سلاطين بني نصر".
اتخاذ الدكاكين لتعليم الصبيان
على أنَّ هذه المكاتب لم تكن -على كثرتها- لتفي باستقبال جموع الأحداث الذين كان آباؤهم لا يتوانون في بعثهم إليها بمجرد أن يعقلوا، لذا وجدنا بعض المؤدِّبين ينتصب لذلك في دكَّانٍ على نحو ما صنع، إبراهيم بن مبشر البكري (ت: 390هـ) الذي اتخذ من دكانٍ له على مقربة من جامع قرطبة كتَّابًا يُقرئ فيه الصغار وينقط المصاحف، بل وجدنا بعض هؤلاء المؤدبين، وخاصَّةً منهم من كان صاحب صلاة، يجلس لتعليم الصبيان في ركنٍ من أركان مسجد صلاته مثل، أحمد بن خلف الأموي (ت: 399هـ) الذي "كان معلم كتاب وصاحب صلاة".
ومن الواضح أنَّ انتصاب المعلمين لإقراء الصبيان في المساجد مع ما كان من تحفُّظٍ بخصوص ذلك يكاد يبلغ درجة المنع لدى أولياء الأمر وأهل الحل والعقد دال على أمرين اثنين: أولهما: وفرة عدد الأطفال الذين كانوا يلتحقون، أرتالًا إثر أرتال، عامًا بعد عامٍ بعد عام بهذه المكاتب حتى أصبحت -فيما نتصور- عاجزةً عن استيعابها، وهو ما ألجأ المؤدِّبين إلى اتخاذ الدكاكين وأركان بعض المساجد أمكنةً لإقرائهم وتعليمهم. وثانيهما: وفرة عدد حفَّاظ القرآن العارفين بقراءاته وتجويده الذين كانوا يندبون أنفسهم للنهوض بهذه المهمة، يُؤكد لنا ذلك -من جهة- ما حفلت به معاجم الرجال الأندلسية من أخبارهم، و-من جهةٍ أخرى- ما كان من شيوع المعرفة لدى مختلف فئات المجتمع بالقراءة والكتابة في المدن والقرى على حد سواء، ممَّا يعود بعض الفضل فيه أو جله إليهم.
ويظهر ممَّا بين أيدينا من أخبار العلم والعلماء في الأندلس أنَّ اتخاذ الدكاكين للتعليم لم يكن مقصورًا على المؤدبين والمكتبين؛ وإنَّما شاركهم في ذلك بعض شيوخ العلم والرواية، مثل: الشيخ المحدث أبي الحجاج يوسف بن علي القضاعي الذي كان يُقريء طلبة العلم، ومنهم ابن خير الفاسي الإشبيلي، الذي كتب الخمسين مقامة للحريري بدكانه بحاضرة المرية.
اتخاذ القصور والمنازل لتعليم الصبيان
على أنَّه إلى جانب المساجد والمكاتب أو الكتاتيب والدكاكين كانت ثَمَّة أمكنة أخرى للتعليم وخصوصًا بعد مرحلة التهجي والتكتيب والتحفيظ وهي المنازل، ويُمكننا أن نُميِّز فيها صنفين:
أولهما: قصور ولاة الأمر والأمراء وأهل الحل والعقد.
وثانيهما: بيوتات العلماء والفقهاء.
أما الأولى فغالبًا ما كان يُؤتى إليها بمؤدِّبين اشتهروا بإقراء أبناء الأمراء وقصروا عملهم عليهم، حتى تنافس في بعضهم الملوك، أو أنَّهم -أي أبناء الأمراء ومن لف لفهم- كانوا يتلقون تعليمهم على أيدي الجواري المتفقِّهات، من أمثال أولئك اللائي علَّمن ابن حزم القرآن وروينه الأشعار ودرَّبنه على الخط.
وأمَّا الثانية فكان أبناؤهم -أي أبناء العلماء- أو بعضهم يتأدَّب بوالده ويتلقَّى معارفه الأولى على يديه، بل يتفقَّه عنده ويروي عنه قبل أن يختلف إلى حلقات الشيوخ خارج بيته، على أنَّ من المفيد هنا أن نُشير إلى أنَّ بعض العلماء كان لا يقصر تعليمه في منزله على أولاده، بل كان يفتح بابه لمن يريد أن يأخذ عنه ما يحمل من معارف وعلوم مثل؛ ابن وضَّاح القرطبي، والقاضي محمد بن عبد الحق بن عطية المحاربي الذي كان طلبة العلم يأتون إليه في منزله للأخذ عنه، وقد عرفنا منهم ابن خير الفاسي الإشبيلي الذي قرأ عليه في منزله بالمرية عام 534هـ كتاب الملخص لمسند الإمام مالك للقابسي، والفقيه النحوي أبي عبدالله محمد ابن سليمان المعروف بابن أخت غانم (ت: 525هـ) الذي كان يسمع الطلبة في منزله بإشبيلية سنة 518هـ كتاب الهداية لأبي العباس المهدوي، وأبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن القيسي الأصبهاني (ت: 608هـ) الذي وفد على الأندلس من دمشق واستقرَّ بغرناطة، وكان يُقريء في داره بعض الأجزاء الحديثية مثل جزء سفيان بن عيينة الهلالي، وأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الذي كان فيمن جلس إليه يقرأ عليه بمنزله في بلنسية عام 609هـ ابن الأبار، وفي مرسية كان الخطيب الحافظ أبو القاسم بن حبيش يستقبل الطلبة في داره ويقرئهم الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي والتقصي لآثار الموطأ لابن عبد البر وأجزاء حديثية مختلفة.
استضافة الطلاب في بيوت العلماء والفقهاء
وكان بعض الفقهاء والعلماء لا يقتصرون على إقراء الطلاب وإسماعهم في دورهم، بل كان منهم من يُضيِّفهم على مائدته، بل كان بعضهم يفسحون لهم في هذه الدور للإقامة معهم الشهور المتوالية حتى يقضوا مأربهم من الأخذ والرواية والسماع، ومثال ذلك: ما حدثنا به عبد الله بن سعيد بن أبي عون عن شيخه فقيه طليطلة أحمد بن سعيد بن كوثر الأنصاري، قال: "كنت آتي إليه من قلعة رباح وغيري من المشرق وكنَّا نيفًا على أربعين تلميذًا، فكنا ندخل في داره في شهر نونبر ودجنبر وينير في مجلس قد فُرش ببسط من الصوف مبطنات والحيطان باللبود من كلِّ حول، ووسائد الصوف، وفي وسطه كانون في طول قامة الإنسان مملوءٌ فحمًا يأخذ بدفئه كل من في المجلس، فإذا فرغ الحديث أمسكهم جميعًا وقدمت الموائد عليها ثرائد بلحوم الخرفان بالزيت العذب، وأيامًا ثرائد اللبن بالسمن أو الزبد فنأكل من تلك الثرائد حتى نشبع منها، ويقدم بعد ذلك لونًا جديدًا ونحن قد روينا من ذلك الطعام، فكنَّا ننطلق قرب الظهر مع قصر النهار ولا نتعشى حتى نصبح إلى ذلك الطعام الثلاثة أشهر فكان ذلك كرمًا وفخرًا لم يسبقه أحد من فقهاء طليطلة إلى تلك المكرمة".
دور السقائف والرباطات
وإلى هذه الأمكنة مكانان آخران لم يكن القصد من بنائهما أن يعلم فيهما، ولكنهما وبحكم طبيعة رسالتهما الإحسانية والدينية كان لهما إسهامٌ في نشر العلم وتوعية روادهما بنفعه، ذاناك هما السقائف والرباطات.
أما السقائف: فهي مبانٍ كانت تُقام بمقربة من المسجد الجامع لإيواء الغرباء وأبناء السبيل، غير أنَّها إلى ذلك كانت -فيما يبدو- تنهض بدورٍ تربويٍّ وعلميٍّ على يد فقيهٍ يُجلسه القاضي "يُعلِّم الناس مسائل الدين ويعظهم ويُعلِّمهم الخير".
أمَّا الرباطات أو الأربطة: فهي مبانٍ حصينةٌ منيعة كانت تُشيَّد على السواحل والثغور والحدود ؛لإيواء الذين يتولون الحراسة والدفاع عن أراضي المسلمين وكانت -إلى ذلك- تئوي المسافرين وأبناء السبيل، وقد دعا اجتماع هؤلاء وأولئك في هذه الأربطة -وهم في الأغلب أهل دين وفضل وصلاح- إلى عقد مجالس تعليم وإقراء ووعظ وإرشاد، وبذلك أسهمت هذه الأربطة في حركة التربية والتعليم والوعي الديني بين فئات مختلفة من أبناء المجتمع الأندلسي وبخاصَّةٍ من كان منهم يُرابط للجهاد والعبادة، ونُمثِّل لهذه الأربطة برباط جبل فارة المطل على ساحل أبحر بالقرب من مالقة ورباط الغبار ورباط كشكي ورباط كشطالي بالقرب من طرطوشة.
ظهور المدارس في الأندلس
ظلَّت الأمكنة سالفة الذكر يتلقَّى فيها الأندلسيُّون العلوم والمعارف الشرعيَّة وغير الشرعية ولم يكن لهم -على مدى قرون متوالية- "مدارس تعينهم على طلب العلم؛ بل يقرأون جميع العلوم في المساجد"، وفي الأمكنة التي عرفنا، ذلك أنَّ المدارس التي ظهرت أوَّل مرَّةٍ في الشرق الإسلامي وفي نيسابور بالذات خلال القرن الرابع الهجري، ثم انتشرت في مختلف الأقطار الإسلامية ومن بينها بعض أقطار الغرب الإسلامي والمغرب الأقصى على وجه الخصوص لم تعرف بالأندلس إلا في منتصف القرن الثامن الهجري على يد السلطان النصري أبي الحجاج يوسف بن الأحمر (ت: 755هـ)، الذي شيَّد في غرناطة حاضرة ملكه "المدرسة العجيبة بكر المدراس"، على غرار المدارس التي بناها سلاطين بني مرين في فاس بالمغرب، وبذلك اعتُبر هذا السلطان أول من خرج عن التقاليد الأندلسيَّة في مجال التعليم كما يقول المستعرب الإسباني إميليو غرسية غومث.
مدرسة الفقيه محمد بن أحمد الرقوطي
غير أنَّ بعض الباحثين الإسبان يرون أنَّ الأندلسيين عرفوا المدارس قبل مدرسة غرناطة هذه بمدَّةٍ غير يسيرة؛ وذلك حين دعا السلطان أبو عبد الله محمد الملقب بالفقيه (671-701هـ) من مرسية الفقيه محمد بن أحمد الرقوطي، وكان يُقريء بها في مدرسة ألفونصو، "وكان آية الله في المعرفة بالألسن -فنونهم التي يرغبون في تعلمها"؛ لينتصب للتدريس بغرناطة في مكانٍ أعد له في أعدل بقعة من الحضرة، فكان الطلبة يغشون فيتعلمون عليه الطب والتعاليم وغيرها وكان لا يُجارى في ذلك.
وليس بين أيدينا ما يدل على أنَّ المكان الذي أعد للفقيه الرقوطي كان على شاكلة المدرسة النصرية؛ وإنَّما هو -حسب ما يُفهم من كلام لسان الدين بن الخطيب- منزلٌ أسكنه فيه السلطان وجعل له جناحًا أو غرفةً منه لإقراء الطلبة العلوم التي كان يُتقنها، وهو بهذا لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر في الموضوع؛ فمن قبل تاريخ جلوس الرقوطي للتدريس في جناح منزله بقرون كان شيوخ العلم من فقهاء ومحدثين وعلماء عربية وغيرها الذين أسلفنا الإشارة إلى جلوسهم في دورهم للتعليم كانوا يُخصِّصون إحدى غرفاتها لذلك.
مدرسة مالقة
كما ذهب باحثون إسبان كذلك إلى أنَّ مالقة عرفت في العقود الأولى من القرن الثامن الهجري قبل غرناطة مدرستين اثنتين: إحداهما شُيِّدت بصحن البرتقال من مسجد مالقة الجامع، وأخرى بُنيت في الجانب الغربي من الجامع نفسه.
المدرسة اليوسفية في غرناطة
ومهما يكن من شيءٍ فإنَّ أشهر ما عرفته الأندلس من مدارس فهي المدرسة التي بناها السلطان أبو الحجاج التي جاءت "نسيجة وحدها، بهجة وصدرًا وظرفًا وفخامة"، وغدت إلى جانب المسجد الأعظم الجامع "أنوه مواضع التدريس بغرناطة"، أغنت طلاب العلم والهدى عن الارتحال والظعن في طلبهما، وهو ما عبَّرت عنه أبيات الشعر التي كُتبت على بابها، وهذه المزايا نفسها كانت هي التى أوحت لشاعرٍ آخر قوله فيها، وقد تصدَّر للإقراء بهذه المدرسة أعلام المشيخة العلمية بالحضرة، وهم الذين يُنوِّه بهم الشاعر على لسانها، وهؤلاء المنوَّه بهم من شيوخ العلم في هذه المدرسة كانوا جميعًا من جهابذة الأساتيذ وفطاحلة العلماء أمثال: الفقيه أبي محمد بن جزي (ت: 757هـ) الذي كان في دروسه بها "يعرب فيغرب يباهى به على المشرق والمغرب"، والفقيه أبي القاسم فرج بن لب (ت: 780هـ) الذي كان بقيامه على علومٍ عديدةٍ ومشاركته في فنونٍ مختلفة "لتدريسها ملازمًا وعلى نهج تبيانها جاريًا"، ويحيى بن أحمد بن هذيل التجيبي (ت: 753هـ) أقرأ بالمدرسة الأصول والفرائض والطب، ولعله أقرأ غير هذه مما كان يجيد من علوم مثل الهندسة والهيئة والحساب، وأبي عبدالله محمد الجعدالة (ت: 897هـ) وكان إلى علمه الواسع بالفقه يقوم على علوم العربية خير قيام، وكان يتولَّى بالمدرسة إقراء كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي.
ومن غير الغرناطيين محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني (ت: 771هـ) عُرِفَ ببراعته في الفقه واتِّساعه في الرواية، وقد أسمع طلبة العلم في المدرسة من كتب الحديث موطأ الإمام مالك وصحيح البخاري، ومنصور بن علي بن عبدالله الزواوي كان على معرفة بالعلوم العقلية إلى جانب العلوم النقلية، وقد تصدَّر بالمدرسة لإسماع بعض ما كان يُتقن من علوم كالأصول والجدل والفقه والتفسير.
فعلى أيدي هؤلاء الأساتذة والشيوخ وأمثالهم تخرَّج في هذه المدرسة وتدرَّب وأُجيز طلاب العلم في غرناطة وفي غير غرناطة ممَّن كانوا يفدون عليها من مختلف الآفاق، وعلى أيديهم استمرَّت الحركة التعليميَّة والتربويَّة والعلميَّة نشطة، على الرغم ممَّا كان يعرفه القُطْر من أخطار تتهدَّد وجوده وتتربَّص به الدوائر.
تلك هي أمكنة التعليم التي عرفتها الأندلس، وفيها تلقَّى أبناؤها مختلف المعارف والعلوم والفنون، ومنها تخرَّج مشاهير علمائهم وفقهائهم وأدبائهم، وقد وعوا مضامين الخطاب التربوي ومقاصده الذي لقنوه من قبل مدرسيهم وشيوخهم فكان له آثاره على علمهم وعملهم.
______________
المصدر: حسن الوراكلي: الخطاب التربوي عند الأندلسيين (الحلقة الثانية)، مجلة المعرفة، تونس، العدد 69، 1430هـ=2009م.
التعليقات
إرسال تعليقك