التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
انتصر المسلمين على الجيش القشتالي في موقعة الدونونية نصرًا عظيمًا باهرًا، نصرًا أعاد إلى الأذهان ذكريات انتصارات المسلمين في المواقع الكبرى
أعاد نصر المسلمين على الجيش القشتالي في موقعة الدونونية إلى أذهان المسلمين ذكريات موقعة الزلاقة وموقعة الأرك، وكان أوَّل نصرٍ باهرٍ يُحرزه المسلمون على النصارى منذ موقعة العقاب، كما كان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي؛ إذ إنَّها أوقفت زحف النصارى في الأراضي الإسلاميَّة، وأخَّرت سقوط غرناطة لمدَّةٍ تزيد عن قرنين من الزمان.
الوضع في الأندلس قبل موقعة الدونونية
في سنة (671هـ= 1273م) تُوفِّي محمد بن الأحمر مؤسِّس مملكة غرناطة، وخَلَفَه في الملك ولده أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقب بالفقيه، وكان يتمتَّع بكثيرٍ من الخِلَال الحسنة؛ من قوَّة العزم، وبُعد الهمَّة، وسعة الأفق، والبراعة السياسيَّة، كما كان عالمـًا أديبًا، ويُؤثر مجالس العلماء والأدباء، وقد لُقِّب بالفقيه لعلمه وتقواه.
أسباب موقعة الدونونية
بعد وفاة محمد بن الأحمر ظنَّ ألفونسو العاشر ملك قشتالة أنَّ دولة الإسلام في الأندلس قد دنت نهايتها، وبدأ يتحيَّن الفرصة لمحاربة المسلمين في غرناطة، وكان محمد بن الأحمر قبل وفاته يشعر بالخطر الذي يتهدَّده من ألفونسو العاشر، ولذلك أوصى ولده محمد الفقيه بالاستنجاد ببني مرين [1] إذا ما شعر بالخطر القشتالي.
لمـَّا تولَّى محمد الفقيه ورأى الخطر القشتالي يُداهمه متمثِّلًا في هجوم ألفونسو العاشر على أطراف غرناطة، أرسل وفدًا من أكابر الأندلس إلى أبي يوسف يعقوب الملقب بالمنصور سلطان بني مرين في المغرب؛ يطلب إليه غوث الأندلس وإنجادها، فكتب إليه السلطان يعقوب منصور المريني يُطمئنه ويعرب عن عزمه على المسير إليه.
المسير إلى الدونونية
استجابةً لدعوة الأمير محمد الفقيه ورغبةً منه في إنجاد الأندلس ونصرتها، خرج السلطان يعقوب منصور المريني من عاصمته فاس وعبر إلى الأندلس في (صفر سنة 674هـ= يوليو 1275م)، في جيشٍ كثيفٍ من البربر المغاربة داعيًا إلى الجهاد على سُنَّة أسلافه المرابطين والموحدين لحماية الإسلام وأهله في الأندلس.
نزل السلطان يعقوب منصور المريني بجيشه في طريف، وهرع محمد الفقيه بن الأحمر وصهره محمد بن أشقيلولة إلى لقائه، وقد اهتزَّت الأندلس كلُّها لعبور سلطان المغرب يعقوب منصور المريني، الذي بدوره توغَّل بجيشه في أراضي القشتاليِّين غازيًا حتى وصل على مقربة من مدينة إستجة جنوب غربى قرطبة، فخرج القشتاليُّون للقائه في جيشٍ ضخمٍ تُقدِّره الرواية الإسلاميَّة بنحو تسعين ألف مقاتل على رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة (دون نونيو دي لاري)، الذي سُمِّيت الموقعة باسمه فعُرِفَت بموقعة "الدونونية".
موقعة الدونونية
قُبيل الموقعة أخذ السلطان يعقوب منصور المريني يُحفِّز جنده على القتال في سبيل الله قائلًا لهم: «أَلَا وإنَّ الجنة قد فتحت لكم أبوابها وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجدَّوا في طلبها، وأبذلوا النفوس في أثمانها، أَلَا وإنَّ الجنة تحت ظلال السيوف؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمن مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمـًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]».
بهذه القيادة الربَّانيَّة، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل، بدأ القتال مع الجيش القشتالي في (15 ربيع الأول سنة 674هـ= 9 سبتمبر 1275م)، ونشبت بين الفريقين معركةٌ سريعةٌ هائلة حقَّق المسلمون فيها انتصارًا باهرًا عظيمًا، وهُزِم القشتاليُّون هزيمةً شديدةً فادحة، وقُتِل قائدهم "الدون نونيو" بالإضافة إلى ستَّة آلاف مقاتل، كما أُسِر سبعة آلاف وثمانمائة آخرين، و-أيضًا- غَنِم المسلمون غنائم لا تُعدُّ ولا تُحصى.
كان قتلى القشتاليين وأسراهم أكثر من عدد الجيش الإسلامي كلِّه، وبعد الموقعة جُمِعتْ رءوس القتلى وأذَّن عليها المؤذِّن لصلاة العصر، ثم بعث السلطان يعقوب منصور المريني برأس "دون نونيو" إلى محمد الفقيه بن الأحمر، ثم كتب إلى المغرب رسالةً يشرح فيها حوادث الموقعة، وما انتهت إليه من نصرٍ باهر، فقُرِئت على المنابر، وكَتَب رسالةً مماثلةً إلى ابن الأحمر، فردَّ عليه بالشكر والدعاء [2].
[1] بنو مرين هم من قبيلة زناتة البربرية الشهيرة التى ينتمى إليها مجموعة من القبائل التى لعبت أدوارًا بارزةً في تاريخ المغرب، وهم يرجعون نسبتهم إلى العرب المـُضَريَّة فيقولون إنَّهم من ولد بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار. وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجي بن ماخوخ، وكانت القبائل المرينية في بداية أمرها من العشائر البدوية المتنقلة التي تجول في صحاري المغرب وهضابه، وفي سنة 613ه اشتبكوا مع دولة الموحدين، واستمرَّت الحرب والاشتباكات بينهم عدَّة عقود حتى استطاع أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين في أواخر سنة (667ه=1269م) أن يقضي على دولة الموحدين وتَسمَّى بأمير المسلمين، وبذلك أصبحت دولة بني مرين وريثة المرابطين والموحدين في المغرب.
[2] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417هـ= 1997م، 5/ 94- 100، ومحمود شيت خطاب: قادة فتح الأندلس، مؤسسة علوم القرآن، منار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1424هـ= 2003م، 2/ 136- 142، وراغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 2/ 652، 654، وعلي المنتصر الكتاني: انبعاث الإسلام في الأندلس، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى1426هـ= 2005م، ص39.
التعليقات
إرسال تعليقك