التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الأندلس قبل ولاية عبد الرحمن الناصر، مقال د. راغب السرجاني، يتناول ثورات الأندلس في قرطبة وطليطلة وغيرهما، وظهور الدولة الفاطمية ومملكة نافار
الأندلس أواخر عهد الضعف
بعد اثنين وستين عامًا من الضعف الشديد، وبعدما تفاعلت عوامل السقوط مع بعضها البعض، نُلقي الآن نظرة عامَّة على طبيعة الوضع في بلاد الأندلس أواخر عهد الضعف في الإمارة الأموية؛ أي سنة (300هـ=913م)، ونُوَضِّح أهمَّ الملامح التي سادت هذا العصر، والتي كانت من فعلِ ونتاجِ عوامل الضعف.
أولاً: كثرة الثورات داخل الأندلس
كانت هناك ثورات لا حصر لها داخل الأندلس، بل واستقلالات في كثير من المناطق، والتي كان من أشهرها استقلال صمويل أو عمر بن حفصون؛ حيث استقلَّ بالجنوب وكوَّن ما يشبه الدُّوَيْلة، فضَمَّ إليه الكثير من الحصون، حتى ضمَّ كل حصون إِسْتِجَة وجَيَّان، التي كانت عند فتح الأندلس من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وكذلك كانت غَرْنَاطَة إحدى المدن التي في حوزته، والتي اتخذ لها عاصمة سمَّاها (بابشتر) وتقع في الجنوب بجوار ألمَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط
وكان من هذه الثورات الكبيرة -أيضًا- ثورة ابن حجاج في أشبيلية، وكانت هذه الثورة تمدُّ وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قُرْطُبَة[2].
ومثلها كانت ثورة ثالثة في شرق الأندلس في منطقة بَلَنْسِيَة، ورابعة في منطقة سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي، حيث استقلَّت إمارة سَرَقُسْطَة -أيضًا- عن الإمارة الأموية في قُرْطُبَة، وخامسة في غرب الأندلس يقودها عبد الرحمن الجلِّيقي، وسادسة في طُلَيْطلَة، وهكذا ثورات وثورات أَدَّت في نهاية الأمر إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية في قُرْطُبَة لم تَعُدْ تُسيطر على كل بلاد الأندلس إلاَّ على مدينة قُرْطُبَة وحدها، إضافة إلى بعض القرى التي حوله[3].
ومن ثَمَّ فقد انفرط العِقد تمامًا حتى سنة (300هـ= 913م)، وتوزَّعت الأندلس بين كثير من القوَّاد، كُلٌّ يحارب الآخر، وكُلٌّ يبغي مُلكًا ومالاً.
ثانيًا: تكوُّن مملكة نافار
ذكرنا -سابقًا- أنه كانت هناك مملكتان نصرانيتان؛ هما مملكة ليون في الشمال الغربي ومملكة أراجون في الشمال الشرقي وعاصمتها بَرْشُلُونَة، اللتان تكوَّنتا زمن ضعف المسلمين في عهد الولاة الثاني، وهنا وفي الفترة الثانية من فترتي الإمارة الأموية تكوَّنت في الشمال -أيضًا- مملكة نصرانية ثالثة كانت قد انفصلت عن مملكة ليون، وهي مملكة أو إمارة نافار، وتُكتَب في بعض الكتب العربية (نباره)، وتُعرَفُ الآن في إسبانيا بإقليم الباسك، ذلك الإقليم الذي يحاول الانشقاق عن إسبانيا.
هذه الممالك النصرانية الثلاث بعد أن كانت تخاف المسلمين في العهد الأول للإمارة الأموية، تجرَّأت كثيرًا على البلاد الإسلامية؛ فهاجمت شمال الأندلس، وبدأت تقتل المسلمين المدنيين في مدن الأندلس الشمالية.
ثالثًا: قتلُ ولي العهد محمد بن عبد الله
أمر خطير آخر قد ظهر، وهو يُعَبِّرُ عن مدى المأساة والفتنة في ذلك الوقت، وهو أنَّ وَلِيَّ العهد للأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قتله أخوه المطرف بن عبد الله، وكان ولي العهد هذا يُسمَّى محمد بن عبد الله، فأصبح الوضع من الخطورة بمكان[4].
وهكذا يكون الحال حين يختلف المسلمون ويتفرَّقون، وحين ينشغلون بدنياهم وبزريابهم وبأنفسهم؛ حكومات نصرانية في الشمال تهاجم المسلمين، ثورات واستقلالات في الداخل، قتلٌ لولي العهد القادم، بلاد إسلامية واسعة بغير ولي عهد في هذه المرحلة الحرجة.
رابعًا: ظهور نجم الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية
زادت الأمور تعقيدًا في بلاد الأندلس بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب، كانت من أشدِّ الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة المسمَّاة بالفاطمية، واسمها الصحيح الدولة العبيدِية.
ظهرت الدولة العبيدية في بلاد المغرب العربي سنة (296هـ= 909م)؛ أي: قبل سنة (300هـ=913م) [5] (نهاية الفترة الثانية من الإمارة الأموية) بأربع سنوات فقط، وكانت دولةً شيعيةً خبيثةً؛ همُّها الأول قَتْل علماء السُّنَّة في بلاد المغرب العربي، ومحاولة نشر نفوذها في هذه المنطقة، فانتشرت بصورة سريعة من بلاد المغرب إلى الجزائر وتونس، ثم إلى مصر والشام والحجاز وغيرها.
وأعلن ابن حفصون الطاعة لعبيد الله المهدي[6]، ولا شَكَّ أن ذلك لم يكن حبًّا في العبيدين؛ ولكن احتياجًا لمددهم وأموالهم.
خامسًا: تَردِّي الأوضاع في بقية أقطار العالم الإسلامي
إذا تخطَّيْنَا بلاد الأندلس وألقينا نظرة على مجمل أقطار العالم الإسلامي في الشرق والغرب وجدنا ما يلي:
مصر والشام يحكمها الإخشيديون، الموصل يحكمها ابن حمدان، البحرين واليمامة يحكمها القرامطة، أصبهان يحكمها بنو بويه، خراسان يحكمها نصر الساماني، طبرستان يحكمها الدَّيْلَم، الأهواز يحكمها البُريديون، كرمان يحكمها محمد بن إلياس، الدولة العباسية أو الخلافة العباسية لا تحكم إلاَّ بغداد فقط، ولا تبسط سيطرتها حتى على أطراف العراق.
هكذا كان الوضع في أقطار العالم الإسلامي؛ لم يكن هناك أيُّ أمل في أيِّ مدد إلى بلاد الأندلس؛ حيث كانت كلها أقطار مشتتة ومفرقة، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
المنحة في ظل المحنة
وإن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت ليرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأن ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويُحكِموا قبضتَهم عليها، ولن تُنقَذَ إلاَّ بمعجزة جديدة مثل معجزة عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-.
وبالفعل فإن الله I بمنِّه وجُودِه أنعم على المسلمين بتلك المعجزة للمرَّة الثانية، فمَنَّ عليهم بأمير جديد، وحَّد الصفوف وقوَّى الأركان، وأعلى من شأن بلاد الأندلس حتى أصبحت في عهده أقوى ممالك العالم على الإطلاق، وأصبح هو أعظم ملوك أوربا في زمانه بلا منازع، إنه عبد الرحمن الناصر.
[1] لمزيد من التفاصيل، انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 24/38، وما بعدها.
التعليقات
إرسال تعليقك