التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الصراع في غرناطة، مقال د. راغب السرجاني، يتناول الصراع بين الغالب بالله ملك غرناطة والزغل من بني الأحمر, وقصة عائشة الحرة في مملكة غرناطة مع ابن الأحمر
غرناطة قبل النهاية
قبل السقوط بست وعشرين سنة تقريبًا، وفي سنة (871هـ= 1467م) كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل يُدعى علي بن سعد بن محمد بن الأحمر، والذي كان يُلَقّب بالغالب بالله على عادة ملوك الغرناطيين[1]، وكان له أحد الإخوة يُعرف بأبي عبد الله محمد الملقب بالزغل (الزغل يعني الشجاع) ، فكان الأول غالب بالله، وكان الثاني زغلاً أو شجاعًا[2].
وكما حدث في عهد ملوك الطوائف اختلف هذان الأخَوان على الحُكم، وبدآ يتصارعان على مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة، والمحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون النصرانيتين.
وكالعادة -أيضًا- استعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة في حرب أخيه الغالب بالله، وقامت على إثر ذلك حرب بينهما، إلا أنها قد انتهت بالصلح، لكنهما -ويا للأسف- قد اصطلحا على تقسيم غرناطة إلى جزء شمالي على رأسه الغالب بالله وهي الولاية الرئيسة، وجزء جنوبي وهي مالقة ومعها بعض الولايات الأخرى، وعلى رأسها أبو عبد الله محمد الزغل[3].
وبعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام، وفي سنة (874هـ= 1469م) يحدث أمر غاية في الخطورة في بلاد الأندلس، فقد تزوَّج فرناندو الخامس ملك أراغون من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة؛ وبذلك تكون الدولتان قد اصطلحتا معًا، وأنهتا صراعًا كان قد طال أمده، ولم يأتِ عام (1479م) إلاَّ وكانت المملكتان قد توحدتا معًا في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة.
صراع داخل بلاط غرناطة
كانت غرناطة سنة (879هـ= 1474م) منقسمة إلى شطرين؛ شطر مع الزغل، والآخر مع الغالب بالله، وفي هذه الأثناء حدث سيل عظيم في غرناطة، «ومن وقت هذا السيل العظيم بدأ ملك الأمير أبي الحسن في التقهقر والانتكاس والانتقاض؛ وذلك أنه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان، وثقّل المغارم وكثّر الضرائب في البلدان، ومكّس الأسواق ونهب الأموال، وشحّ بالعطاء إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها الملك، وكان للأمير أبي الحسن وزير يُوافقه على ذلك، ويظهر للناس الصلاح والعفاف، وهو بعكس ذلك...
فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه... فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم ويثقلها، ويجمع الأموال ويأتيه بها، ويعطيها لمن لا يستحقها، ويمنعها عمن يستحقها، ويهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان، ويقطع عنهم المعروف والإحسان، حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم، وأكلوا أثمانها وقتل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص، والملك في ضعف، إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى، فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحمة...» [4].
كان السلطان الغرناطي قد ركن إلى الخلافات التي نشبت بين رؤساء النصاري، وما وقع بينهم من حروب؛ «فبعضهم استقل بملك قرطبة وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن الى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد، والنظر في الملك ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان -أيضًا- قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعدُ البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد، واتُّفق أن صاحب قشتالة تَغَلَّب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد»[5].]
عائشة الحرة
كان الغالب بالله الذي يحكم غرناطة متزوجًا من امرأة تُدعى عائشة، وقد عرفت في التاريخ بعائشة الحرة، وكانت له جارية نصرانية تُسمى ثريا قد فُتن بها وغرق في عشقها[6]، «فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير، وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما، وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة؛ فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة، والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات... وفي هذا اليوم (27 جمادى الأولى 887هـ) بلغ الخبر لمن كان في لوشة أن ابني الأمير أبي الحسن محمدًا ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما، ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثريا من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما، فاحتالت عليهما بالليل، وأخرجتهما إليهم، وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش بدعوتهما، ثم قامت غرناطة -أيضًا- بدعوتهما، واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب وكوائن أعرضنا عن ذكرها لقبحها؛ لأن الآمر آل بينهم إلى أن قتل الوالد ولده، ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس والعدو -دمره الله- مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس، إلى أن ساعده الزمان ووافقته الأقدار»[7].
ويعرض لنا الأستاذ محمد عبد الله عنان هذا الأمر في أسلوب قصصي شائق مستعينًا فيه بالروايات العربية والقشتالية، فيقول: «تحتل شخصية عائشة الحرة في حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة، وليس ثمة -في تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية- شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التي تذكرنا خلالها البديعة ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة بما نقرأه في أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف...كانت عائشة الحرة ملكة غرناطة في ظلِّ مُلك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض.... وكانت عائشة ترى من الطبيعي أن يئول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع؛ ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحُسن، تعرفها الرواية الإسلامية باسم «ثريا» الرومية، وتقول الرواية الإسبانية: إن ثريا هذه واسمها النصراني إيسابيلا... فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التي عُرفت عندئذ بـ«الحرة»؛ تمييزًا لها عن الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها...
وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذٍ، وأثقلثه السنون، وغدا أداة سهلة في يد زوجه الفتية الحسناء، وكانت ثريا فضلاً عن حسنها الرائع فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية في قصر غرناطة، واستئثارها بالسلطان والنفوذ في هذه الظروف العصيبة، التي تجوزها المملكة الإسلامية عاملاً جديدًا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا في الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ؛ ذلك أنها أنجبت من الأمير أبي الحسن كخصيمتها عائشة ولدين؛ هما: سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما، وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك على عقب الجارية النصرانية، ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبي الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش أمنع أبراج الحمراء، وشدد في الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة.
فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء، الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف في المجتمع الغرناطي، وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين؛ فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته، واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتدَّ السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا في طغيانها إلى أبعد حدٍّ، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبي عبد الله عثرة آمالها.
وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم... بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تُدَبِّر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط. ويقال: إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبي الحسن، قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة، وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة (887هـ=1482م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف...
وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجريء تثير أيما عطف وإعجاب، وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمد في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيدًا عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة»[8].
[1] كان محمد بن يوسف بن نصر مؤسس هذه الدولة بغرناطة يلقب أيضًا بـ «الغالب بالله»، وهكذا كان أبو عبد الله محمد بن علي آخر ملوك غرناطة، والذي عُرف في التاريخ الإسباني من بعد بـ« الملك الصغير»، وكان يُلقب بـ « الغالب بالله»، ويُعلق الأستاذ محمد عبد الله عنان على ذلك بقوله، 7/288: «وهي شعار سائر ملوك غرناطة».
[2] ينبغي أن نسجل هنا شكرًا بالغًا للمجهود الرائع الذي بذله الأستاذ محمد عبد الله عنان في التأريخ لهذه الفترة، وهو يُعَدُّ مصدرًا رئيسًا لها، فهذه الفترة تعاني ندرة في المصادر العربية، وقد بذل الأستاذ عنان جهدًا مبكرًا في جمع وتحليل الروايات القشتالية والإفرنجية المتاحة، كما قد عثر على وثائق كثيرة في شكل مخطوطات عربية وإفرنجية في رحلاته لإسبانيا والمغرب، وغيرها من المدن الأندلسية القديمة والمغاربية أيضًا، ولا يكاد يخلو كتاب -أرَّخ لهذه الفترة بعدَه- من الاعتماد على ما أتى به.
التعليقات
إرسال تعليقك