التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
فترة الخلافة الراشدة هي فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي كله، ولها خصائص محددة، وسمات مميزة، وهي امتداد طبيعي لفترة النبوة العظيمة.
فترةُ الخلافةِ الرَّاشدةِ هي فترةٌ مِنْ أهمِّ فتراتِ التَّاريخِ الإسلاميِّ كلِّه، ولها خصائصُ محدَّدةٌ، وسماتٌ مميَّزةٌ، وهي امتدادٌ طبيعيٌّ لفترةِ النُّبوَّةِ العظيمةِ، ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الرَّبطِ بينها وبين فترةِ النُّبوَّةِ بأكثرَ مِنْ وسيلةٍ، وكان لهذا مردودٌ كبيرٌ على الفقهِ الإسلاميِّ، وعلى فهمِ التَّشريعاتِ وطريقةِ تطبيقِها، ولا سبيلَ لمَنْ يُريد فَهْمَ الإسلامِ وقصَّتَه إلَّا بدراسةٍ واعيةٍ لهذه الفترةِ الثَّريَّةِ مِنْ تاريخِه.
شهد رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهذه الفترةِ أنَّها ستكون على منهجِه صلى الله عليه وسلم، وهي شهادةٌ كافيةٌ لقمعِ أيَّ محاولةٍ للتَّشكيكِ في أيِّ أَحَدٍ من الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم جميعًا؛ فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ». ثُمَّ سَكَتَ[1].
يُفَهم مِنَ النَّصِّ السَّابقِ بلا جدالٍ أَنَّ الخلفاءَ الرَّاشدين سيسيرون جاهدين على خُطَا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ)، وسيحرصون على اتِّباعِ سُنَّتِه، وعلى الحفاظِ عليها، وعلى القيامِ بمهمَّةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وهي البلاغُ للعالمِ أجمع، وهذا البلاغُ يتضمَّن حفظًا كاملًا ومأمونًا للكتابِ وتبيينِه؛ أي للقرآنِ المُعجِزِ والسُّنَّةِ المطهَّرةِ الَّتي تُبَيِّنه للنَّاسِ، فتبقى حُجَّةُ اللهِ واضحةً للعالمين، ويتحقَّق الهدفُ مِنَ البعثةِ النَّبويَّةِ.
أكثرُ مِنْ هذا، أشار رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر إلى أَنَّ هذه الفترةَ السَّعيدةَ مِنْ تاريخِ الأمَّةِ ستشهد بعضَ الاجتهاداتِ في تطبيقِ الشَّريعةِ لأمورٍ لم تكن موجودةً في العهدِ النَّبويِّ، وسيقوم هؤلاء الخلفاءُ العظامُ بجهدٍ كبيرٍ في هذه الاجتهاداتِ، وسيرزقهم اللهُ تعالى الهدايةَ والتَّوفيقَ، فيختارون ما يُريده اللهُ مِنَ العبادِ، فتُصبح بذلك اجتهاداتُهم سُنَّةً مُلْزِمَةً للمسلمين، وواجبةَ الاتِّباعِ، ولا يستقيم لمسلمٍ أَنْ يقول: هؤلاء رجالٌ، ونحن رجالٌ، فيُمكن أَنْ نُخالف رأيَهم إلى رأينا! فإنَّ رأيَ هؤلاء الخلفاءِ ليس كرأينا؛ بل هو سُنَّةٌ أُمِرْنَا أَنْ نتمسَّك بها بقوَّةٍ! جاء هذا المعنى -الذي قد يستغربه بعض النَّاس- في حديثِ العرباض بن سارية رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[2]، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[3].
يُسْتَنْبَط مِنَ الحديثِ السَّابقِ أمورٌ كثيرةٌ مهمَّةٌ؛ مِنْ أعظمِها أربعةٌ تخصُّ موضوعَ السُّنَّةِ:
أوَّلًا: على المسلمين العضُّ بالنَّواجذِ على سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين؛ أي التَّمسُّكَ بها بقوَّةٍ، ومفهومٌ بذلك أَنَّ سُنَّتَهم سيكون فيها بعضُ الأمورِ الجديدةِ الَّتي لم يكن لها مثالٌ صريحٌ مشابهٌ في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وإلَّا لاكتفى الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بالأمرِ باتِّباعِ سُنَّتِه هو وحدَه، وهذه الأمورُ في الواقعِ كثيرةٌ وكبيرةٌ؛ مثل: جمع القرآن، وحروب الردة، وحركةِ الفتوحِ، وظهورِ الخوارج، وأحداث الفتنة، وغيرِ ذلك.
ثانيًا: بدهيٌّ أنَّه إذا أَمَرَنا الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بأَنْ نتمسَّك بسُنَّتِه صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أعقب ذلك بالأمرِ بالتَّمسُّكِ بسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين، أنَّ سُنَّةَ هؤلاء الخلفاء لن تكون مخالِفَةً بحالٍ لسُنَّته صلى الله عليه وسلم، وإلَّا صار هناك تُعارضٌ بين الأمرين، وعليه فالخلفاءُ الرَّاشدون مُنَفِّذون تمامًا لسُنَّة الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: وَصَفَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الخلفاءَ بالرَّاشدين، كما وَصَفَهم بالمهديِّين؛ فالوصفُ الأوَّلُ يُعطيهم فضيلةَ «الرُّشدِ»، وهو لفظٌ يُستعمل في كلِّ ما يُحْمَد مِنَ الأعمالِ والأقوالِ، وهو نقيضُ الغَيِّ؛ قال تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وهو يحمل في باطنِه معنى الاستقامةِ على طريقِ الحقِّ مع تَصَلُّبٍ فيه[4]، وقال تعالى مُعَرِّفًا لمعنى الرُّشدِ: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7]؛ فالرَّاشدُ هو الَّذي «يَهْوَى» الإيمانَ والخيرَ، «ويُبْغِضُ» الكفرَ والشَّرَّ. أمَّا الوصفُ الثَّاني فهو يدلُّ على أَنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي هداهم لهذا السلوكِ؛ فاجتهاداتُهم مُوفَّقَةٌ مِنَ اللهِ، متابعةٌ منه، وبها سيُحْفَظ الدِّين، وتقوم الأمَّةُ. هذا يُطَمئِن المسلمَ إلى نقاءِ منهجِ هؤلاء الخلفاءِ، وإلى أمانتِهم في الإرشادِ.
رابعًا: ختم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الحديثَ بتوضيحِه أَنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، فإذا أخذنا هذا التَّقريرَ في ضوءِ أَمْرِه صلى الله عليه وسلم قبلها باتِّباع سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين، أدركنا أَنَّ ما أحدثه الخلفاءُ الرَّاشدون مِنَ اجتهاداتٍ ليس مِنْ قبيل البدعِ؛ بل إنَّ اتِّباعَ سُنَّتِهم يقي البدعَ، وهذا أبلغُ في تحفيزِ المسلمين على اقتفاءِ آثارِهم.
ولكونِ هذه الفترة مهمَّةٌ جدًّا في التَّشريعِ الإسلاميِّ لم يترك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تحديدَ مدَّتِها لاجتهاداتِ المسلمين؛ إنَّما حدَّدها هو صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدِّقَّة، فعن سفينة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ»[5]. لقد حدَّد هذا الحديث مدَّةَ الخلافةِ الرَّاشدةِ بثلاثين سنةً، وهذا يشمل فتراتِ حُكْمِ أَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، وعَلِيٍّ، رضي الله عنهم، كما يشمل فترةَ الأشهر السِّتَّةِ الَّتي حكمها الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ رضي الله عنه، مِنْ رمضانَ سنةَ أربعين إلى ربيعٍ الأوَّلِ سنةَ إحدى وأربعين مِنَ الهجرةِ؛ فتمَّت الثلاثون سنةً كما وصف الرَّسولُ العظيمُ صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديثُ مِنْ دلائلِ نبوَّتِه صلى الله عليه وسلم؛ قال ابْنُ كَثِيرٍ: «وَإِنَّمَا كَمُلَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ»[6].
ومِنَ الجميلِ أَنْ نعلمَ أَنَّ الخلفاءَ الرَّاشدين كانوا يُدركون أنَّ سُنَّتهم مُتَّبَعَةٌ، وأَنَّ ما يختارونه مِنَ اجتهاداتٍ سيكون مُلْزِمًا للمسلمين مِنْ بعدِهم، وفي قصَّةِ جلدِ أحدِ شاربي الخمرِ في عهدِ عثمان بن عفان رضي الله عنه دلالةٌ على ذلك؛ فقد جُلِدَ أربعين جلدةً، في حضورِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وكان الَّذي يقوم بِعَدِّ الجلداتِ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأمر الجلَّادَ بالتَّوقُّف عند أربعين جلدةً، ثم قال عَلِيٌّ رضي الله عنه: «جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ»[7]. ولقد قال عَلِيٌّ رضي الله عنه هذا الكلامَ في حضرة عُثْمَانَ رضي الله عنه ممَّا يعني موافقته على ذلك، ويتضَّح مِنْ هذا أنَّ جلدَ شاربِ الخمرِ أربعين جلدةً هو مِنَ السُّنَّة، وكذلك جلده ثمانين جلدةً، مع أَنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولكن فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، فصار الأمر بين هذا وذاك، والقاضي مُخَيَّرٌ بين الحُكْمَين، وما أجمل الكلمةَ العميقةَ الَّتي قالها عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وهو يُلَخِّص فهمَه لفترةِ الخلفاءِ الرَّاشدين: «وَكُلٌّ سُنَّةٌ»! إنَّ هذا الإدراكَ مِنَ الخلفاءِ الرَّاشدين رضي الله عنهم كان عبئًا ثقيلًا على أكتافِهم، ومسئوليَّةً جسيمةً لا تعدلها مسئوليَّةٌ، وقد دفعهم هذا -كما سنرى في الصَّفحاتِ القادمةِ- إلى الحرصِ الشَّديدِ على كلِّ رأيٍ يرونه، وكلِّ قولٍ أو فعلٍ يختارونه؛ فلم تكن مسئوليَّتُهم فرديَّةً قط؛ إنَّما كانوا يعلمون أنَّ الأُمَّةَ جميعًا، وإلى يومِ القيامةِ، ستلتزم باختياراتِهم.
ولكيلا يتردَّد المسلمون في اتِّباعِ هؤلاء الكرامِ أَسْهَبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مدحِهم، والأحاديثُ والمواقفُ في هذا الصَّددِ أكثرُ مِنْ أَنْ تُحصى، وسأكتفي بذكرِ بعضِها ممَّا له دلالةٌ في موضوعِنا، وخاصَّة ما يذكر ترتيبًا لولاية هؤلاء الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عَنِ ابْنِ عمر رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهَذِهِ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ»[8].
نُلاحظ في هذا الحديثِ أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم ذكر الخلفاءَ الثلاثةَ الأُوَلَ بترتيبِهم، وفي هذا إشارةٌ إلى تولِّيهم للأمرِ بهذا التَّرتيبِ. أيضًا ذكر الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ واحدٍ منْ هؤلاء الثلاثةِ العظامِ أثقلُ مِنَ الأمَّةِ جميعًا، وهذا يكشف عن قدرٍ عظيمٍ مِنَ الفضلِ، ويدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ اللهَ اختارَهم ليكونوا خلفاءَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم على هذا التَّرتيبِ.
وليست هذه هي الرؤيا الوحيدة التي جاء فيها هذا الترتيب؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنَّه كان يُحدِّث، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُرِيَ اللَّيْلَةَ[9] رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ[10] بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ». قال جابر رضي الله عنه: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا تَنَوُّطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم[11].
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، «إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا[12] فَشَرِبَ شُرْبًا ضَعِيفًا[13]، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ[14]، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَانْتَشَطَتْ[15]، وَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ»[16].
ومن المواقف أيضًا التي ظهر فيها هذا الترتيب ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، من أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلْتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، قَالَ: فَجَاءَ المَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا، فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ[17]، فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا[18]، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي البِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ، فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اليَوْمَ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَدَفَعَ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي القُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي البِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي[19] يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا -يُرِيدُ أَخَاهُ- يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ. فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي القُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي البِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ. فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ». فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ. فَدَخَلَ فَوَجَدَ القُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُ مِنَ الشَّقِّ الآخَرِ. قَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: «فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ[20]»[21].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا، وأبو بكر، وَ عمر، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ[22] بِهِمْ، فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ»[23].
وحديث العشرة المبشَّرين بالجنَّة واضحٌ أيضًا في الترتيب؛ فعَنْ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي الجَنَّةِ»[24].
وهذا الترتيب -سواءٌ في الولاية أم في الفضل- كان واضحًا لكثيرٍ من الصَّحابة بشكلٍ عامٍّ؛ لذا يقول ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه بشكلٍ صريحٍ: «كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لاَ نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ»[25].
وعَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ[26]، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ». قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ». وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: «مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ»[27].
ولئن كانت أحاديثُ ترتيبِ الولايةِ والفضلِ قد كثرت في حقِّ الخلفاء الثلاثة الأُوَل، فإنَّ عليَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لم يُتْرَك دون توضيحٍ لفضله وقيمته؛ فالأحاديثُ الصَّحيحةُ الَّتي جاءت في مدحِه كثيرةٌ للغايةِ، ويكفيه أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال له: «أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي»[28]! وفي هذا الاستدراكِ الأخيرِ؛ أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي»، دلالةٌ على أنَّ المنزلةَ المقصودةَ ليست مجرَّدَ منزلةِ قرابةٍ؛ إنَّما هي منزلةُ فضلٍ وقيمةٍ؛ فهو يُقارنه بنبيٍّ كريمٍ كهارونَ عليه السلام، في هَدْيِه، وطاعتِه لله، وعونِه لنبيِّ الله موسى عليه السلام.
التعليقات
إرسال تعليقك