جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
دولة جنوب السودان تحديات الداخل أخطر مقال بقلم عصام بدران، يحلل أوضاع وتحديات دولة جنوب السودان الجديدة المرتقبة بعد الانفصال عن الشمال
صاحب استفتاء تقرير المصير بجنوب السودان أجواء من الاحتفالات والمسيرات المبشرة بقرب الاستقلال، ولكن ما إن تتبخر نشوة الانتصار سيتوجب حتمًا على قادة الجنوب مواجهة أوضاع الجنوب المتردية، وفداحة المسئوليات، والتحديات التي تنتظرهم من بناء "دولة جديدة من الصفر"، بعدما مزقت هذا الإقليم عقود طويلة من الحرب.
فطبقًا لاتفاقية نيفاشا للسلام الموقعة في 2005م، في حالة التصويت بالانفصال، هناك فترة انتقالية تستمر لمدة ستة أشهر من يوم الاستفتاء حتى يوليو 2011م؛ لتعلن بعدها قيام دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011م. وهنا تثور تساؤلات حول مدى جاهزية الجنوب ليصبح دولة مستقلة.
ويواجه الجنوب ملامح ولادة متعسرة، فلم يتم حتى الآن حسم العديد من الملفات الساخنة المتعلقة بترسيم الحدود، وتوزيع النفط، غير أن ما يبدو أخطر وأصعب بالنسبة لقادة دول الجنوب هو العديد من التحديات الداخلية من: الفقر، وانعدام البنية التحتية، وضعف الأمن، وعدم سيادة القانون، والفساد، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتصاعد التوترات القبلية، فضلاً عن ظهور مؤشرات على مجاعة مقبلة.
وفي هذا السياق يقول الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر: إن الجنوب لديه توقعات كبيرة لم تتحقق جميعها؛ "لذلك سيكون هناك قدر كبير من خيبة الأمل".
تتمثل طموحات الجنوب في رفاهية اقتصادية "شبه فورية"، وتوزيع عادل للثروة، وتحقيق ديمقراطية تسمح بالتعايش السلمي لأطياف الجنوب العرقية والدينية المتنوعة.
في الواقع، لم يشهد الجنوب أي تطور ملموس طوال فترة حكم الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي استمرت 5 سنوات منذ التوقيع على اتفاقية السلام 2005م؛ حيث تبرمت الحركة من المسئولية لتلقي بها على عاتق الحكومة المركزية بالخرطوم، ولكن بمجرد تحقق الانفصال لم تستطع الحركة التنصل من مسئولياتها الجديدة في الجنوب من بناء دولة جديدة وسط العديد من التحديات والمخاطر.
يركز البعض على إشكالية اسم الدولة الجديدة، متناسيًا المشاكل الجوهرية التي تجعل ميلاد الدولة الجديدة متعسرًا؛ إذ الجنوب يواجه مزيجًا من التحديدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية؛ مما قد يقوض مبكرًا دعائم الدولة الجديدة.
تحديات ما بعد الانفصال
تتصدر قضية الحدود قائمة أولويات حكومة الجنوب، فعلى الرغم من ترسيم الحدود الدولية بين الشمال والجنوب، فإن خطر النزاعات المستقبلية ما زال قائمًا؛ حيث أثار ترسيم الحدود العديد من الصراعات القبلية حول ملكية الأرض وحقوق الرعي.
ولعل أبرز مناطق التماس هي منطقة أبيي الغنية بالنفط؛ حيث تتنازع عليها قبيلة المسيرية الشمالية وقبيلة الدينكا نقوك الجنوبية، وكان من المفترض إجراء استفتاء منفصل حول مستقبل أبيي، بموازاة الاستفتاء الجاري حاليًا لتقرير مصير جنوب السودان، إلا أنه أرجئ بسبب خلاف حول من الذين يحق لهم المشاركة في التصويت.
وتمتد النزاعات الحدودية بين الشمال والجنوب لتشمل مناطق أخرى كمنطقة جبال الأنقسنا وجبال النوبة، ويطالب الجنوب بضم منطقتي كفيا كنجي وحفرة النحاس من ولاية جنوب دارفور إلى ولاية غرب بحر الغزال الجنوبية.
السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ستتعامل حكومة الجنوب مع التداخلات العرقية والاجتماعية للقبائل التي تعيش على المناطق الحدودية؟ وكيف ستبسط الحكومة سيطرتها على حدود الجنوب المترامية بين 5 دول، بالإضافة لخط الحدود الطويل الممتد 2010 كم مع الشمال؟ تظل نقاط التماس هي أهم نقاط التوتر والنزاعات المحتملة.
يأتي ملف النفط كأحد أهم الملفات الشائكة في العلاقة مع الشمال، والتي ستكون موضع تفاوض بعد الاستفتاء.
فعلى الرغم من أن حكومة الجنوب ستتمتع بنسبة 100% بإيراداتها النفطية عقب الاستقلال، فإن الشمال سيطالب بسعر أعلى في صورة إيجارات ورسوم لاستخدام المصافي وخطوط الأنابيب والموانئ؛ مما يجعل الجنوب رهينة للشمال الذي يمتلك البنية الأساسية للتكرير وشحن النفط، وسيحتاج الجنوب سنوات لتشييد بنيته التحتية، حتى وإن تمكن من التغلب على الصعوبات المالية، مما يشكل تحديًا على قدرة الجنوب على التحرر من قبضة الشمال.
قد ينشغل قادة الجنود بالقضايا السياسية الرئيسية من: ترسيم الحدود، وتوزيع النفط والمياه، ومحاولة حسم ملف منطقة أبيي، إلا أن هناك تحديات داخلية لا تقل عنها أهمية، بل إنها تبدو أخطر وأصعب.. وتأتي التحديات الاقتصادية في الطليعة.
بذخ وفساد
تعاني حكومة الجنوب من صعوبة التحول من حركة متمردة إلى حزب سياسي يصلح لإدارة دولة مترامية الأطراف، فبعد توقيع اتفاق نيفاشا، وزعت الحقائب الوزارية على قادة الحركة الشعبية، وهنا يتشكك البعض في مدى كفاءاتهم الإدارية وقدرتهم على تقديم الخدمات التي يأمل بها الجنوبيون؛ فالتحول من حركة سياسية عسكرية إلى حكومة مدنية يشكل أخطر التحديات التي يمر بها الجنوب.
مظاهر الغنى الفاحش لزعماء الحركة ووزرائها الذين يعيشون في بنايات ضخمة ويتجولون في شوارع جوبا بسيارات دفع رباعي (هامر)، تشير كذلك إلى انفراد الحركة بمكاسب الاستقلال وحدها؛ حيث تلاحق تهم الفساد العديد من أعضاء الحركة في ظل غياب الشفافية والرقابة الإدارية على عائدات النفط.
وفي هذا الصدد، أثارت الدول المانحة للجنوب موضوع الفساد الحكومي كأحد أهم معوقات جهود التنمية في الجنوب.
إضافة إلى ذلك، فإن انفراد الحركة الشعبية بمقاليد الحكم في الجنوب يثير سخط القوى السياسية الأخرى في الجنوب، في ظل تخوف من تحول الجنوب إلى نظام دكتاتوري جديد؛ فمعظم الحركات السياسية -خاصة ذات الطابع العسكري منها- تميل إلى الحكم المركزي، وتجد صعوبة في تقاسم السلطة.
إضافة إلى ذلك بدأت العديد من الخلافات بين قادة الحركة تطفو على السطح، والتي وصلت أحيانًا لحد النزاع المسلح، مثل تمرد الجنرال جورج أتور الذي يقاتل وقواته حكومة الجنوب؛ مما يزعزع استقرار الدولة الجديدة.
وعلى الرغم من توقع بعض المحللين أن حكومة الجنوب ربما تتمكن من إضافة مليار دولار إلى ميزانيتها السنوية التي تبلغ نحو ملياري دولار من خلال الحصول على المزيد من عائدات النفط بعد الاستقلال، فإنه ليس مؤكدًا أن توجه هذه الميزانيات نحو التنمية.
فالواقع يقول: إن أغلب ميزانية الجنوب تخصص لدفع رواتب الموظفين والجيش الشعبي لتحرير السودان، وينفق الجزء الآخر على إعادة التسليح، وذلك طبقًا لتقرير مؤسسة (مسح الأسلحة الصغيرة) المعنية بمراقبة تجارة الأسلحة حول العالم.
ويقدر المسح أن الجنوب اشترى أكثر من 100 دبابة ومدافع مضادة للطائرات وقاذفات صواريخ وعشرة آلاف بندقية كلاشنيكوف بين 2007- 2009م عبر شحنات أسلحة قادمة من أوكرانيا عبر كينيا.
وعلى غرار الشمال، ينفق الجنوب مبالغ هائلة للحفاظ على جيش ضخم فشل في تسريحه برغم السلام.
فطبقًا لتقرير للأمم المتحدة، لم يتم بعد نزع سلاح 100 ألف جندي تابع للحركة، ويعتقد أن 400 جندي فقط تحولوا إلى الحياة المدنية، وما زالت حكومة الجنوب ملزمة بدفع رواتبهم؛ مما يستهلك قدرًا كبيرًا من الميزانية على حساب ملفات التنمية، وسبق أن فجر تأجيل دفع رواتب العسكريين أعمال شغب من جانب جنود غاضبين، فضلاً عن أنه ليس هناك الكثير من فرص العمل التي يمكن توفيرها لهم في حال تسريحهم.
البناء الاجتماعي الهش للجنوب، وغياب التناغم والانسجام بين قبائله المتصارعة يشكل أزمة داخلية حقيقية؛ لذا يحذر المحللون من خطر انقسام الجنوب على نفسه، وإلى دويلات أصغر..
فملف الأمن من أكثر الملفات حساسية في الجنوب؛ حيث تبرُز ضرورة إحكام الحكومة سيطرتها على الأمن بعد تاريخ من الاضطرابات العسكرية، وتمرد الميليشيات والاشتباكات المسلحة في المناطق القبلية.
وأشار تقرير صادر من معهد "انديبندانس" إلى أنه في جنوب السودان ثمانية ملايين شخص وثلاثة ملايين بندقية، ورصد التقرير زيادة الاشتباكات القبلية المسلحة في الجنوب بعد فشل برنامج نزع سلاح القبائل الجنوبية، وسط اتهامات بمحاباة الحركة لقبيلة الدينكا التي ينحدر منها معظم أعضاء الحركة على حساب قبيلة النوير والشلك.
وفي هذا الصدد، حذرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" من تفجر "العنف القبلي"، مشيرة إلى أن انتشار السلاح في الجنوب والتنافر القبلي يعد أكبر مهدد لأمن الجنوب.
اقتصاد هش
يبدو مستقبل اقتصاد الجنوب غير مبشر في ظل تدني البنية التحتية في الجنوب؛ حيث لا تتجاوز الطرق الممهدة 60 كيلو مترًا، فأقاليم الجنوب لا تربطها طرق ممهدة، بالإضافة لعدم وجود شبكة كهرباء وطنية؛ حيث يتم توفير الطاقة الكهربائية عن طريق مولدات الديزل، أما مياه الشرب فهي شحيحة جدًّا في الكثير من المناطق، حتى فنادق العاصمة جوبا لا توفر سوى خيم وعربات مجهزة لروادها، فبنايات الجنوب بدائية للغاية نادرًا ما تتعدى الطابقين.
يفتقر الجنوب إلى الموارد البشرية؛ بسبب سوء مرافق التعليم؛ حيث يمثل التعليم الابتدائي في جنوب السودان واحدًا من أقل النسب في العالم، كما يعاني الجنوب من واحد من أعلى مستويات وفيات الأمهات في العالم، ويعاني سكانه من تفشي الأمراض مع تدني الخدمات الصحية المقدمة.
شبح مجاعة
الأوضاع الإنسانية والاقتصادية المتردية تجعل الجنوب يعتمد اعتمادًا شبه كلي على المساعدات الخارجية، وتأتي أغلب المساعدات الإنسانية في شكل مواد غذائية لا يمكن توجيهها بالتالي نحو التنمية الزراعية للوصول لاكتفاء ذاتي؛ مما يجعل الجنوب غير قادر على الوقوف على قدميه.
وفي هذا السياق يرى محمد كباج -الباحث الاقتصادي المستقل- أن "الجنوب هش للغاية من ناحية الاكتفاء الذاتي من الغذاء".
وعلى الرغم من انهمار المساعدات على الجنوب من عشرات الجهات المانحة؛ حيث تكلفت مشروعات يدُيرها البنك الدولي أكثر من 500 مليون دولار في الجنوب وحده، فإن استمرار هذه المساعدات يواجه عدة تحديات؛ حيث إنها تقلصت بالفعل مع الأزمة المالية العالمية، بالتوازي مع قلق المانحين من تزايد الفساد المستشري بالجنوب.
من ناحية أخرى، يخيم على الجنوب شبح مجاعة قادمة مع اقتراب موسم الجفاف في الفترة من شهر يونيو إلى أغسطس، فمع عودة قرابة 400 ألف جنوبي من الشمال لينضموا للدولة الجديدة، تبرز على السطح العديد من التكهنات حول قدرة حكومة الجنوب على توفير الغذاء والمسكن للوافدين الجدد ودمجهم في الجنوب.
يمضى الجنوب -إذن- في مشروعه لبناء دولة مستقلة وسط آمال الجنوبيين العريضة والعديد من التحديات والمتاعب على الأرض، فهل ينجح زعماء الجنوب في التغلب عليها، أم سينهار مشروع الدولة الجديدة وهو ما زال يخطو خطواته الأولى؟
في الوقت الراهن، يتوجب على قادة الجنوب العمل وبسرعة وإلا سيصاب الجنوبيون بخيبة أمل؛ مما قد يؤدي لما لا يحمد عقباه.
المصادر
- رويترز، "جنوب السودان يواجه مشكلات ما بعد الانفصال" 9 يناير 2011م.
- صفاء الصالح، "جنوب السودان: خارطة الحدود المتداخلة" بي بي سي 7 يناير 2011م.
- الشرق الأوسط، "جنوب السودان: الانفصال قد يكون سهلاً ولكن تبقى تحديات الاقتصاد وسط غياب البنية التحتية وتقلص حجم المساعدات الدولية بسبب الأزمة المالية الدولية" 8 يناير 2011م.
- الشرق الأوسط، "تقرير للأمم المتحدة: الحركة الشعبية لم تنزع سلاحها.. و400 من مائة ألف تحولوا إلى مدنيين" 1 يناير 2011م.
• شبكة الشروق، "الحركة الشعبية تلوح بالقوة لنزع سلاح المدنيين" 19 أغسطس 2009م.
المصدر: موقع أون إسلام.
التعليقات
إرسال تعليقك