التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يستكمل الدكتور سهيل طقوش أحداث فتوح بلاد الشام، ويُبيِّن فيه الخطة البيزنطية للحرب والخطة الإسلامية المقابلة، وتعيين خالد قائد عام للجيش.
بعد الاستعدادات التي قام بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه والخطط التي وضعها لتوجيه الجيوش لفتوح الشام؛ حيث بتقسيم الجيش إلى خمس فرقٍ خرجت من المدينة وسارت كلُّ فرقة في طريق، ووقعت بعض المعارك بين المسلمين والبيزنطيين انتصر فيها المسلمين إلَّا أنَّهم بسبب تسرُّع خالد بن سعيد رضي الله عنه لقوا هزيمةً مريرةً في معركة مرج الصفَّر، ممَّا أدَّى إلى اضطراب الصفِّ الإسلامي وانتعاش الروح البيزنطيَّة مرَّةً أخرى، ووضع البيزنطيُّون خطَّةً جديدةً للوضع الجديد لمواجهة المسلمين.
الخطة البيزنطيَّة لوقف الزحف الإسلامي:
وضع هرقل خطَّة عسكريَّة لمواجهة المسلمين على إثر انتشارهم في أجزاء من بلاد الشام تقوم على الأسس التالية:
- ضرب الجيوش الإسلاميَّة منفردة.
- يتراجع البيزنطيُّون وفق خطَّةٍ تكتيكيَّةٍ ويتخلُّون للمسلمين عن مناطق الحدود الشماليَّة
للجزيرة العربيَّة.
- تتجمع وحدات الجيش الأوَّل في فلسطين -بعد تعزيزها- بقيادة تيودور أخي هرقل
لمواجهة جيش عمرو بن العاص رضي الله عنه.
- تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة وردان أمير حمص.
- يزحف الجيش الثاني من أنطاكية إلى حمص ويُباشر القتال مع كلِّ جيشٍ من الجيوش
الإسلامية الثلاثة الأوَّل والثاني والثالث، بكشلٍ منفردٍ بحيث يستدرج كلَّ جيشٍ منها إلى
القتال على حدة فيهزمه ثُمَّ يميل إلى الآخر، وهكذا إلى أن ينتهي منها جميعًا مستخدمًا
أسلوب "المناورة بالخطوط الداخليَّة"[1].
بناءً على ذلك تراجع البيزنطيون بسرعةٍ من أمام المسلمين متخلِّين عن الأراضي المتاخمة لحدود الجزيرة العربية، ثُمَّ استجمعوا قواهم في أنطاكية وفلسطين استعدادًا للتصدِّي للمسلمين[2]، وهكذا نشأت أمام المسلمين حالةٌ جديدةٌ لم يكونوا يتوقَّعونها.
الخطة الإسلامية المقابلة:
ازداد الموقف العسكري وضوحًا بعد استعدادات البيزنطيين وحشدهم الجند.
وقف القادة المسلمون في بلاد الشام على هذه التعبئة البيزنطية، فتشاوروا فيما بينهم واستقرَّ الرأي على اقتراح قدَّمه عمرو بن العاص رضي الله عنه ويقضي باجتماع الجيوش الإسلاميَّة في مكانٍ واحد[3]، وقضت الخطَّة:
- بالجلاء بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ عن المناطق التي فتحوها في الداخل؛ إذ المهمُّ في الحرب ليس
السيطرة على العواصم والبلدان، بل القضاء على جيوش العدو وسحق مقاومتها.
- بالتراجع حتى جوار بصرى، مع تجنُّب الاشتباك بالعدوِّ والدخول معه في معركةٍ غير
متكافئة، على أن يتمَّ تنظيم المرحلة التالية من العمليَّات فيما بعد[4].
تنفيذًا لهذه الخطَّة سار أبو عبيدة رضي الله عنه باتجاه بصرى، وجلا يزيد رضي الله عنه عن الغوطة ورفع الحصار عن دمشق، ثُمَّ جلا شرحبيل رضي الله عنه رافعًا الحصار عن بصرى، واجتمعت الجيوش الثلاثة في جوار بصرى في حين أخذ عمرو بن العاص رضي الله عنه ينسحب تدريجيًّا بمحاذاة الضفَّة الغربية لنهر الأردن ليتَّصل بزملائه[5].
بعد تنفيذ إجراءات التراجع والتجمُّع في جوار بصرى كتب أبو عبيدة رسالةً إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه يُعلمه بقرار القادة ويطلب موافقته عليه، وفعلًا وافق أبو بكرٍ رضي الله عنه على هذا القرار وأدرك في الوقت نفسه حرج موقف المسلمين على الجبهة الشاميَّة، وأنَّهم بحاجةٍ إلى قيادةٍ عسكريَّةٍ فذَّة تُخرجهم من هذا الوضع الحرج وجدها في خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي انتشرت أخبار انتصاراته على الفرس في العراق، فاستشار أصحابه فوافقوه[6].
الواقع أنَّ المسلمين في العراق حقَّقوا هدفهم الآني وهو السيطرة على إقليم الحيرة وغرب الفرات، وأزاحوا نفوذ القبائل النصرانيَّة عن الفرات الأوسط، وبفعل ضعف ردِّ الفعل الفارسي تجاه هذا التوسُّع بسبب النزاعات الداخليَّة كان لا بُدَّ من تفعيل جبهة بلاد الشام خاصَّةً أنَّ الجيوش الإسلاميَّة هناك لم تُحرز تقدُّمًا يُذكر، وظلَّت تتمركز في مواقعها الأساسيَّة عند حافَّة الصحراء على الرغم من أنَّ التهديد الخَطِر الذي يُمكن أن تُشكِّله الفرق العسكريَّة البيزنطيَّة في المنطقة لم يكن يتَّسم بالرجحان الشديد، واحتاج المسلمون إلى قوَّاتٍ إضافيَّةٍ للتوسُّع في مناطق المدن، وتُمثِّل هذه الأفكار الخلفيَّة لاستدعاء خالد بشطر الجيش انطلاقًا من النظرة الصحيحة.
استدعاء خالد بن الوليد إلى الجبهة الشاميَّة:
كتب أبو بكرٍ رضي الله عنه رسالةً إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو في العراق يأمره بالتوجُّه إلى بلاد الشام، جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد، سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلِّي على نبيِّه محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أمَّا بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فدع العراق، وخلِّف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخفِّفًا في أهل القوَّة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة وصحبوك في الطريق، وقَدِموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة, والسلام عليك"[7]. وفي روايةٍ: "إني قد ولَّيتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم، وأن تُسارع إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ وقتال أعداء الله، وكن ممَّن يُجاهد في الله حقَّ جهاده"[8].
يتضمَّن الكتاب توجيهات الخليفة بوصفه القائد العام للجيوش الإسلامية؛ فقد حدَّد لقائده الهدف، وبيَّن له العناصر الضروريَّة للوصول إليه، ومنها: المكان الجغرافي، الإمكانات والموارد التي يُمكن توفيرها، التحرُّك السريع، تولِّي قيادة الجيوش الإسلامية في بلاد الشام، محاربة البيزنطيين حتى النصر، إلَّا أنَّه ترك له حريَّة اختيار الطريق الذي سيسلكه، وأسلوب قتال عدوِّه؛ مبرهنًا عن بعد نظر في الشئون العسكريَّة.
انتقال خالد بن الوليد من العراق إلى بلاد الشام:
كان خالد في الحيرة عندما تلقَّى أمر الخليفة بالتوجُّه إلى بلاد الشام لنجدة الجيوش الإسلاميَّة المرابطة هناك، وكان قد أنشأ لنفسه موقعًا ثابتًا موطَّد الأركان-نسبيًا- في غرب الفرات، لكنَّه لم يكن ينطوي منذ البداية على الرغبة في فتح إقليمٍ لنفسه والاستقرار فيه، ولا بُدَّ للعمليَّات العسكريَّة المتوقَّعة في بلاد الشام أن تكون موضع ترحيبٍ منه، من واقع كونها تحدِّيًا لكفاءته العسكريَّة؛ لذلك أطاع الأمر فورًا[9].
قسَّم خالد -قبل مغادرته العراق- جيشه إلى قسمين، اصطحب معه تسعة آلاف وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق، وترك ثمانية آلاف بقيادة المثنى وهم الذين كانوا معه في العراق[10]، وكان عليه أن يتحرك بسرعة ليقطع المسافة بين الحيرة في العراق وبصرى في بلاد الشام بأقلَّ ممَّا يُمكن من الوقت، والمعروف أنَّ المسافة بينهما لا تقلُّ عن ستمائة ميل، واختار طريق عين التمر- قراقر[11]- سوى[12]- أرك[13]- تدمر- القريتين- الغوطة- بصرى، ويتميَّز هذا الطريق بأنَّه خالٍ من قلاع الفرس والبيزنطيين ومسالحهم، ويصل بسالكه إلى بصرى دون أن يتعرَّض لهجمات العدو، لكنَّه يمرُّ بمفازةٍ قاحلةٍ طويلةٍ تحتاج إلى مسيرة خمسة أيامٍ بلياليها، لا ماء فيها ولا كلأ، وتنتشر عليها بعد "سُوى" قبائل متحالفة مع البيزنطيين، ويُعدُّ اجتيازها مغامرةً قد تكون مميتة إن لم ينتصر من يغامر فيها على سراب رمال الصحراء، وعلى عطشها ولهيب شمسها خمسة أيامٍ متتالية، إنَّه طريق خطر على الرغم من قصر مسافته.
خرج خالدٌ رضي الله عنه من الحيرة في (8 صفر 13هـ/ 14 إبريل 634م)، وأرسل رسالةً عامَّةً إلى المسلمين في بلاد الشام يُخبرهم بأمر الخليفة بنجدتهم، ورسالةً خاصَّةً إلى أبي عبيدة رضي الله عنه يُخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدًا عامًّا لجيوش المسلمين في هذه البلاد[14].
كان أبو عبيدة رضي الله عنه في الجابية حين أتاه عمرو بن الطفيل مبعوث خالدٍ رضي الله عنهما بالرسالتين، فقرأ على المسلمين الرسالة الأولى، واحتفظ لنفسه بالرسالة الثانية، وعلَّق عليها قائلًا: "بارك الله خليفة رسول الله فيما رأى، وحيَّا خالدًا رضي الله عنه بالسلام"[15].
اجتاز خالدٌ رضي الله عنه مع قوَّاته المفازة بمعاونة الدليل رافع بن عميرة الطائي، فكان يسير في الليل مهتديًا بكوكب الصبح ويستريح في النهار، ولتأمين الماء للحملة خصَّص خالد -بناءً على اقتراح رافع- عددًا من الإبل السمان، فأعطشها أيَّامًا ثُمَّ أوردها الماء حتى امتلأت أجوافها، ثُمَّ قطع مشافرها حتى لا تجتر، كما اصطحب كلَّ جنديٍّ معه معدَّات المياه المنفردة، فكان كلَّما نزل مكانًا للراحة ينحر عشرًا من تلك الإبل، ثُمَّ يشقُّ بطونها ويأخذ ما فيها من الماء فيروي الخيل منه، ويُطعم أفراد الجيش من لحومها، ويرتوي هؤلاء ممَّا حملوا من الماء على ظهور الإبل، ثُمَّ يُتابع سيره إلى أن أشرفت المفازة على نهايتها، وأشرفت الإبل على النفاذ، كما نفذ الماء المحمول على ظهورها، وأضحى الجيش عرضةً للهلاك عطشًا، وكان فجر اليوم الخامس حين بلغ الجيش موقع سُوى، فخشي خالدٌ أن يهلك أفراده عطشًا، فنادى رافعًا وسأله عن الماء فطمأنه قائلًا: "خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء"، ودلَّهم على بئر ماءٍ مطمور، فحفروا ونبع الماء، فشرب الجند والإبل والخيل[16]، واستراح أفراد الجيش برهةً في سُوى، ثُمَّ تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى تدمر، وصالح أهل مصيَّخ بهراء وأرك خالدًا رضي الله عنه بعد أن اصطدم بهم[17].
تجنَّب خالدٌ رضي الله عنه حين حاذى إقليم الجزيرة الفراتية أن يصطدم بالبيزنطيين الذين كانوا يحتلُّونه، واجتهد -حين أشرف على بلاد الشام وأراد أن يتوغَّل فيها- ألَّا يترك خلفه مواقع قائمةً للبيزنطيين أو لحلفائهم من العرب؛ فإنَّ الشام غير الجزيرة.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ـــــــــــــــــــــ
[1] سويد: ص261.
[2] المرجع نفسه.
[3] الطبري: 3/392.
[4] سويد: ص261، 262.
[5] المرجع نفسه: ص262.
[6] الواقدي: 1/24.
[7] الواقدي: ص24، 25، وابن أعثم: 1/107.
[8] الأزدي: ص54.
[9] كلير: ص231.
[10] يذكر الطبري أنَّ خالدًا رضي الله عنه قدم على المسلمين في تسعة آلاف، 3/394، وقارن
بالبلاذري الذي يذكر ثلاثة أرقام هي ثمانمائة وستمائة وخمسمائة، ص118، وكلير: المرجع
نفسه ص223، 224، وكمال: ص323، 324.
[11] قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق. الحموي: 4/317.
[12] سوى: اسم ماء لبهراء من ناحية السماوة. المصدر نفسه: 3/271.
[13] أرك: مدينة صغيرة في طرف برية حلب قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون. المصدر
نفسه: 1/153.
[14] الأزدي: ص71، والواقدي: 1/25.
[15] المصدران أنفسهما.
[16] البلاذري: ص118، والطبري: 3/409، 410، وابن عساكر: 2/87، 88.
[17] الأزدي: ص76، والبلاذري: المصدر نفسه: ص119.
التعليقات
إرسال تعليقك