الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
ثمَّة أشخاص يرجع إليهم في النهاية منبعُ الأفكار، هؤلاء هم القادة الحقيقيُّون لمسارات الشعوب، فبوحيٍ من نتاج عقولهم تشكَّلت عقول وقلوب، ورُسِمَت طموحات
من عقلاء العالم؟
عقلاء العالم هم عقوله المفكِّرة، وهؤلاء هم قوَّاده الحقيقيُّون، فليس من إنسانٍ إلَّا وهو يتصرَّف بوحيٍ من قناعاته وأفكاره، هذه القناعات والأفكار تشكَّلت بتأثير من العلماء والمفكِّرين، أولئك الذين انتشرت أفكارهم وترسَّخت حتى وصلت إلى الأب والأم، وإلى المربيَّة وإلى المعلِّمة في الحضانة والمدرسة، وإلى الصحفي والإعلامي.. إلى آخره، ثُمَّ انتقلت إلى الإنسان، فأخذت طريقها نحو التنفيذ، والتنفيذ أقوى ما يكون إذا وصل هذا الإنسان إلى منصبٍ سياسيٍّ أو عسكريٍّ مؤثِّر.
ثمَّة أشخاص يرجع إليهم في النهاية منبعُ الأفكار، هؤلاء هم القادة الحقيقيُّون لمسارات الشعوب، فبوحيٍ من نتاج عقولهم تشكَّلت عقول وقلوب، ورُسِمَت طموحات وأفكار وخطط واستراتيجيَّات، وتحرَّكت حشود وجيوش وأساطيل؛ لذا فهم الصُّنَّاع الحقيقيُّون للتاريخ؛ فأصحاب الأفكار هم الذين يُشَكِّلُون الرؤى التي يعتنقها السياسيُّون والعسكريُّون وقادة الدول، وكثيرًا ما يُنسب إلى المستبدِّين والأشرار أنَّهم تتلمذوا على كتاب (الأمير) لمكيافيللي، فهتلر كان لا ينام إلَّا إنْ قرأه، وفيه أعدَّ موسوليني رسالته للدكتوراه، وكان مِن قُرَّائه -أيضًا- لينين وستالين[1].
وسواءٌ صحَّ هذا الكلام أم لم يصح فإنَّه يُعَبِّر عن حقيقة أنَّ المفكِّرين هم الذين يُشَكِّلُون الرؤى والقناعات التي يُحَوِّلها السياسيُّون والعسكريُّون إلى تاريخٍ حقيقي، إنَّ ممَّا يُذكر بالاستحسان للإسكندر الأكبر أنَّه كان تلميذًا لأرسطو، وممَّا نذكره في تاريخنا بالخير أنَّ عمر بن عبد العزيز كان من بطانته رجاء بن حيوة، وكان أبو يوسف القاضي من بطانة هارون الرشيد، كذلك اشتعلت الأزمة الفكريَّة في عصر المأمون لأنَّ أحمد بن أبي دُؤَاد -إمام المعتزلة- كان من بطانة المأمون، وضاعت بغداد بلا مقاومة أمام المغول؛ لأنَّ ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي –وهما وزيران وعالمان- كانا في بطانة المستعصم العبَّاسي.
حتى اليوم لا تنسى الديمقراطيَّات فضل الجهود الفكريَّة لجون لوك، كما لا تنسى الثورة الفرنسيَّة فضل جان جاك روسو، كما لا يُمكن أن نُفَسِّر سياسة الولايات المتحدة الحاليَّة بعيدًا عن برنارد لويس، وصمويل هنتنجتون، وجون كريستوف روفان.
***
وإذا ما غاب القادة الفكريُّون الممثَّلون في العلماء والخبراء والمتخصِّصُون، فإنَّ المشهد سيبدو مأساويًّا؛ إذ سيتصدَّر للتعليم والتدريس والتربية والتوجيه الجهلة والسفهاء والتافهون، وهؤلاء حريٌّ بهم أن يقودوا شعوبهم ورعيتهم نحو الكوارث والمآسي، وكم تكرَّر ذلك في التاريخ! لذا فإنَّ من علامات الفساد التي يُحْذَر منها أن يُوضع في المنصب مَنْ لم يكن كُفئًا له، وفي هذا يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ"[2].
وممَّا يُنسب إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "الناس ثلاثة: عالمٌ ربانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيل النجاة، وهمجٌ رعاعٌ أتباعٌ لكلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح"[3]. فإذا لم يكن العالِم في موضع القيادة الفكريَّة، فأهون الأحوال أن يتصدَّر المشهد متعلِّم يتعثَّر ويتعسَّر، وأسوءها أن يتصدَّره الجاهل الذي لا يعلم ولا يتعلَّم.
ولهذا تحتفظ الذاكرة الإنسانيَّة بأسماء العلماء وسيرهم أكثر ممَّا تحتفظ بأسماء الملوك والقادة، على الرغم من أنَّ الآخرين هم الأظهر في مجال صناعة التاريخ وتغيير حدود الممالك والدول ونشأة الإمبراطوريَّات وسقوطها، فمَنْ يعرف الآن قادة الإغريق السياسيِّين والعسكريِّين؟ قد يكون بقيت في الذاكرة أسماء القليل منهم ممَّن يُعَدُّون على أصابع اليد، لكن مَنْ لا يعرف في التاريخ أسماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وإقليدس وفيثاغورث وبطليموس وأرشميدس وجالينوس؟! وهكذا قد يغيب عن الذاكرة أسماء الذين حكموا إيطاليا في عصر النهضة، لكن مَنْ لا يعرف رُوَّاد عصر النهضة الإيطاليِّين، ليوناردو دا فنشي، مايكل أنجلو، مكيافيللي، برونو، جاليليو، ماركو بولو، كولومبوس.. وغيرهم.
وفي التاريخ الإسلامي إذا سُئل الجمهور عن أسماء الحكَّام والقادة السياسيِّين والعسكريِّين فلن يذكروا إلاَّ عددًا قليلًا، لكن الذاكرة مشحونةٌ بكثيرٍ من أسماء العلماء عبر كلِّ التاريخ الإسلامي، فمَنْ في المسلمين لا يعرف أسماء مثل: الحسن البصري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والفارابي، وابن سينا، والرازي، والحسن بن الهيثم، والنووي، وابن رشد، وابن تيميَّة، وابن القيِّم، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم وغيرهم!
العلماء وعصور النهضة:
إنَّ ثمَّة قاعدة تبدو واضحة في مسار التاريخ الإنساني؛ تلك هي: أنَّ عصور النهضة هي عصور الثراء في العلماء، وأمَّا عصور النكبة فهي التي تذهب بالعلماء إلى السجن أو إلى الموت؛ يُمكننا أن نحقِّق هذه القاعدة بالنظر إلى عصور النهضات وعصور النكبات، لقد كانت بغداد عاصمة الدنيا يوم أن كانت تموج بالعلماء في كلِّ فنٍّ، حينما كانت عاصمة الرشيد والمأمون، وكانت تُحْمَل إليها الكتب من كلِّ مكان، ثُمَّ هي تُخْرِج الكتب إلى كلِّ مكان، ثُمَّ مرَّ الزمان على بغداد وهي قافرةٌ مقفرةٌ محطَّمة، قد سُلب منها حسنها وبهاؤها حين كان بلاطها مهتمًّا بالتوافه والتافهين والمنافقين، وكان يضع خيرة عقولها في السجون أو المنافي أو المشانق. كذلك كانت القاهرة، وكذلك كانت قُرْطُبَة، وكذلك كلُّ عاصمةٍ ثقافيَّةٍ حضاريَّة في هذه الدنيا.
لقد استفادت من هذا الدرس مدنٌ أخرى، باريس وبرلين وواشنطن وروما ومدريد، فخرجت من عصورها الوسطى المظلمة؛ حيث كان العلماء في السجون أو في المحارق، لتدخل عصر النهضة، الذي أنتج أمواجًا كبيرة من الفلاسفة والمفكرين والفنانين والأدباء والفلكيِّين والمهندسين والرحَّالة؛ فتحوَّلت من عصور الظلام الوسطى إلى عصور السيادة الثقافيَّة والحضاريَّة.
إنَّ القادة الفكريِّين هم القادة الحقيقيُّون لمسار النهضة وصناعة التاريخ، ولأجل هذا نتوجَّه إليهم تحديدًا بنداء هام؛ لأنَّهم وحدهم يملكون -بداية- فهمها واستيعابها، ثُمَّ تطويرها وتنميتها وتصحيحها، ثُمَّ العمل على تحويلها إلى برامج عملٍ فعليَّةٍ على أرض الواقع.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] انظر: ميكيافيللي: الأمير، ص5 (مقدمة المترجم).
[2] رواه ابن ماجه (4036)، وأحمد (7899، 8440، 13322)، وأبو يعلى (3715)، والطبراني في الأوسط (3258)، والحاكم (8439) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: حديث حسن. وقال سليم أسد في التعليق على أبي يعلى: رجاله ثقات. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2253). والرويبضة: تصغير رابضةٍ وهو الذي يرعى الغنم، وقيل هو العاجز الذي رَبَضَ عن معَالي الأُمور وقَعَد عن طَلبها، والغالب أنه قيل للتافه من الناس رابضة ورويبضة لربوضه في بيته وقلَّة انبعاثه في الأُمور الجسيمة. ابن منظور: لسان العرب، مادة ربض 7/149.
[3] الغزالي: إحياء علوم الدين 1/121.
التعليقات
إرسال تعليقك