الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الفعالية الحضارية الإسلامية بين التنظير والتطبيق، كيف نحقق هذه الموازنة؟ وكيف حققها أسلافنا في العصور الأولى من التاريخ؟
يقع بعض المفكرين المسلمين في تناقض شديد بين مستوى شمول الإسلام والقرآن لكل شيء: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل: 89]، ومستوى المطالبة القرآنية والإسلامية الملحة بالمشي في الأرض والتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي النفس الإنسانية: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: 21]، والمطالبة الملحة أيضا بطلب العلم عبر مساحة قرآنية تربو على سبعمائة آية، علاوة على آثار النبوية القولية والفعلية.
ولو أننا تعمقنا في القرآن وفي السنة النبوية لوجدنا الموازين معتدلة وواضحة بين مستوى (التفصيل والتنظير) الذي وضع الإسلام معالمه في كل مجال من مجالات الفكر والحياة؛ من خلال عدد وضع من الثوابت والمعالم التي تحدد الفيصل، أو تحدد الفروق بين الواجب، والحرام، والمكروه، والمباح.... والمستوى العقلاني التطبيقي الذي به وحده يزدهر التنظير ويكسى عظمة لحمًا، وتتفتح آفاقه وتتواصل معطياته عبر العصور!!
وكما يخطئ بعض المسلمين في الفروق بين المستويين؛ فيتصورون الاقتصاد الإسلامي مجرد الابتعاد عن الربا والاحتكار والغش؛ والأخذ بالمضاربة، والمرابحة، والمتاجرة ويتصورون الأدب مجرد مواعظ أو ضوابط أخلاقية؛
كذلك يخطئ أعداء المسلمين حين يؤمنون بالتغير الدائم والحركة المستمرة، دون ثوابت، أو أصول، أو معالم؛ تضع الإشارات الكبرى، وتوجه المسيرة البشرية في كل عصور إلى الطريق القويم الذي يجب أن يتجهوا إليه، وأن يبدعوا فيه؛ مدركين ما ينبغي لهم وما لا ينبغي؛ مما قد يعجز عقولهم عن إدراكه، ومما قد يدركونه في مرحلة، بينما يغيب عنهم في مرحلة أخرى؛ ولهذا زودتهم العناية الإلهية به من خلال الوحي الصحيح، وهم بعد ذلك مطالبون بالإبداع في مجال التطبيق، معتمدين على عقولهم وطاقاتهم، مستنيرين بالثوابت والأصول، مستجيبين -في الوقت نفسه- لتوجيه الرسول -عليه الصلاة والسلام-:(أنتم أعلم بأمور دينكم)، مؤمنين بأن المعادلة بين التنظير والتطبيق لتحقيق الفعالية معادلة واضحة، لكن بعض المسلمين أضاعوا معالمها بين إفراط وتفريط!!
لقد درج كثير من المسلمين على معالجة تفسير القرآن وفقهه بطريقة فرعية وحرفية وجزئية... دون أن يتعاملوا معه بطريقة كلية شمولية، يستمدون منه القيم القرآنية المطلقة، والقوانين الثابتة ومفاتيح التعامل مع سنن الله الكونية والاجتماعية.... ومن ثم يستخلصون الإضافات الصالحة لتطوير التنظير!! ويا للأسف كان من نتيجة هذا أن انحرفت مسيرة المسلمين عن المنهج القرآني المعرفي والتجريبي؛ الجامع بين العقلية والمادية الحسية في إطار محكم...
وسيطر على فكرهم -في كثير من العصور- المنهاج اليوناني، ولا سيما بعد أن ترجمت كتب الإغريق بمؤازرة الدولة العباسية (الخليفة المأمون) في القرن الثالث الهجري. مع أن العكس -أي ترجمة المنهجية المعرفية القرآنية إلى اليونانية وغيرها- كان هو الصحيح، فنحن المسلمين المنطلقين من القرآن الكريم أقوم فكرا، وأنقى تصورا، وأزكى عقيدة، وأقدر على قدر الله حق قدره، واحترام السنن الكونية والتاريخية؛ لو بقي نهرنا الفكري سليمًا لا يعكر صفوه شوائب وثنية أو عقلية منحرفة!!
إن التصور القرآني للكون والإنسان والحياة هو أصدق تصور ظهر في التاريخ بهذا الشمول، وهذا التوازن... إنه الدليل الأكبر على عظمة الخالق الذي يتطابق كتابة المسطور مع كونه المنظور!!
ومن المعروف أن قدرًا كبيرا من موضوعات القرآن وقضاياه يعالج ما يعرف بالقصص القرآني، أو تاريخ الأنبياء وحضاراتهم، وتاريخ الأقوام الماضين، من مندثرين، وممن بقيت لهم امتدادات وشواهد، وهذه المعالجة لم تلق هذا الاهتمام ليكون القرآن كتاب تاريخ، ولا لإثبات إعجاز القرآن التاريخي فحسب؛ بل قصد بها -إلى جانب ذلك- أن يستوعب المسلمون سنن الله، وأن يلتزموها، وألا يحاولوا القفز من فوقها، وأن يدركوا أن تمكينهم في الأرض مشروط بالفقه بهذه السنن والتزامها في الحركة التاريخية والابتعاد عن التواكلية والعفوية، أو ما يسمى بإسقاط التدبير!!
فالاعتماد على الله والتوكل عليه -بمعناهما الحق- يوجبان فقه المفاتيح والأساليب والوسائل التي خلقها الله -سبحانه- وجعلها قاسمًا مشتركًا بين كل الناس، ومعالم تدلهم على وسائل البقاء والتقدم والتعمير
والقصص القرآني يعطينا أيضًا -في حركتنا التاريخية- ذاكرة ضرورية للحاضر والمستقبل إنه (الحاسوب) الذي يغذي الحاضر بالمعلومات الصحيحة المعتمدة على تجارب صادقة، ومن ثم يمكن استخلاص الطرائق الصحيحة لحركة المستقبل!!
والفيصل الأساسي بيننا وبين الماديين أننا نمزج بين الماضي والحاضر والمستقبل، ونراها نهرًا واحدًا دافقًا، يصعب وضع حواجز بين تياراته وأمواجه.
فالزمان كتلة واحدة، ومصطلحاتنا البشرية المعروفة: الماضي، والحاضر، والمستقبل مجرد مصطلحات نسبية معرفية، لكن سرعة الأمواج وقوتها تحول دون إقامة حواجز سميكة بينها؛ كما أن هذه الحواجز خاصة بنا نحن البشر ، ولكنها بالنسبة لعلم الله لا قيمة لها، فالثلاثية الزمانية عنده -سبحانه وتعالى – سواء ومن هنا الحديث في القرآن الكريم عن محتويات الجنة، وعن تنعم المؤمنين فيها، وكأنه رسم للوحة مرئية ومشاهدة، لا تفصلنا عنها هذه الآلاف من السنين.
ونحن نلمح هذا المعنى في أي حديث قرآني عن الغيب، فهو حاضر في تفاصيله ودقائقه تمامًا، كما أن هذا الغيب يجب أن يكون حاضرًا في وعي المسلم ووجدانه حضورا يصل إلى درجة اليقين الكامل، وإلا فقد الإيمان أول شروطه.
إن الإيمان بالغيب، واندماج هذا الغيب، في رحلة الزمان كلها؛ لا بد أن يكون مرتبطًا بالماضي والحاضر والمستقبل، وكأنه جزء لا ينفصل عنها إلا بمقدار الحساب والجزاء (في يوم الفصل - يوم القيامة)؛ هذا الإيمان هو الفيصل المكين بين المؤمنين والماديين الدنيويين (العلمانيين)
وهذا الغيب شيء مختلف تماما عن الأسطورة (الميثولوجيا) التي يحاول العلمانيون إضافتها إلى الغيب بينما هي وهم وخرافة، وليست كالغيب مستقبلا محدد المعالم ينقله إلينا من يحيط بكل شيء علمًا، ويملك الماضي والمستقبل، ويستحيل عليه الكذب أو إخلاف الميعاد!!
لقد كان ممكنا -عندما كانت المنهجية واضحة- أن يتم استيعاب أسلافنا للفقه الحضاري والعلمي للقرآن الكريم علميا خلال قرنين من الزمان، بعد ظهور الإسلام؛ حيث تمكنت قواعد الدعوة في الأماكن التي ساح الإسلام فيها وقد كنا أهلا لأن نجد على مشارف القرن الثالث الهجري نظريات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ومفاهيم ومصطلحات محددة نقتحم بها عالم الحضارات الموجودة، ونقود أهلها بها إلى الحضارة الإسلامية...
لكن تضخم ((علم الكلام)) وما أفرزه من تيارات جدلية عقيمة كان على حساب الفعالية الإسلامية في علوم الحياة الأخرى، وأيضا جاء الاتجاه إلى ترجمة علوم اليونان -بهذه الطريقة العشوائية، التي طبقها الخليفة المأمون، على مشارف القرن الثالث الهجري- خطوة غير حكيمة، بل غير منتظمة انتظامًا ينسجم مع البناء العالم للرؤية والفعالية الإسلامية، فوقع الارتباك في وقت كان من الممكن أن يكون بداية انطلاق عالمي إسلامي جديد.
وقد كانت المنهجية السليمة كفيلة – بعد هذين القرنين- بإغناء الحياة الإسلامية في كل مجالات الإبداع الإنسانية ، الثقافية، والعلمية؛ وكان كل قرن قادرًا على أن يندفع فيه المسمون بقدر من الفعالية؛ يمكنهم من أن يسبقوا كل الحضارات إلى عصر الفضاء والاتصالات!!
إننا لسنا إزاء محاكمة لمسيرتنا الحضارية، لكننا – حتى في هذه الأيام- مطالبون باكتشاف عوامل الخلل في هذا التاريخ، انطلاقًا من أننا مؤمنون بأهلية الإسلام الدائمة للفعل الحضاري، وصلاحيته لقيادة كل زمان ومكان؛ بعد أن ختم الله به الرسالات، وجعله حجته الباقية، وكلمته الخاتمة إلى يوم القيامة. وأنه لضروري أن تعتدل المعادلات كلها في أيدينا، وأن تتوازن رؤانا بعد أن وجدنا أنفسنا في هذا المحيط الحضاري المتدني.
وإذا كنا نأخذ على أوروبا تركيزها على الفعالية المادية، وإهمالها للجوانب الإنسانية والأخلاقية، فإننا يجب أن نأخذ على أنفسنا تقصيرنا الشديد في الفعالية المادية، واستهلاكنا لطاقتنا في مجالات كلامية عقدية أو سياسية... لقد اختل الميزان في أيدينا، كما اختل في أيديهم... لقد شد كل منا الحبل بطريقة خطأ، وكانت مسيرتنا التي انتهت بنا إلى واقعنا المعاصر أكبر حاجز حال دون تفهمهم لنا... فما كان ممكنا أن يتواضع الإنجليز ليفهموا ما عند المسلمين الهنود من أفكار عظيمة، مع أنهم يسوقون هؤلاء المسلمين الهنود سوق الأنعام، وما كان ممكنا للحملة الفرنسية التي جاءت بالمطبعة، وبالسلاح الحديث، أن يؤمن رجالها بأن لدى هؤلاء المصريين المتخلفين دينا يحمل قيما حضارية هم أحوج الناس إليها... إن الموقعين المختفين للسيد المستعمر وللبعد المقهور لا يسمحان بالتحاور الفكري ولا بالفعالية الحضارية، فإن القوة تعمي عن الحق، ومن هنا انتهت المدنية الأوروبية إلى نجاحات كبيرة في مجال العلم والتقنية؛ مقطوعة عن خشية الله، وعن احترام إنسانية الإنسان؛ وعن مجرد التفكير في التعاون مع الآخرين الضعفاء، على الخير الإنساني العالم!!
التعليقات
إرسال تعليقك