التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت معركة ڤيينا سنة 1683م بداية للحرب العثمانية النمساوية التي استمرت ست عشرة سنة كاملة، إنها الحرب التركية العظمى كما يسميها الأوروبيون.
الفترة المتبقية من عهد السلطان محمد الرابع (1683-1687م)
نشبت في عام 1683م حرب بين الدولة العثمانية والنمسا نتيجة تعدِّيَّات الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول على الجزء المجري التابع للعثمانيِّين. أعلنت الدولة العثمانية الحرب على النمسا في أغسطس 1682م، ولكنَّها لم تبدأ في تحريك جيوشها الفعلية لحرب النمسا إلا بعد أكثر من سبعة شهور، في أول أبريل 1683م[1]. هذه المدة الطويلة أعطت إمبراطور النمسا الفرصة لإثارة أوروبا، واستنهاضها لمساعدته، وقد كان لهذه المساعدات أكبر الأثر في سير الأحداث في الفترة المقبلة.
الحملة الهمايونية الكبرى إلى النمسا (صيف 1683م):
خرج السلطان محمد الرابع من إدرنة بنفسه على رأس الجيش العثماني الذي كان ضخمًا للغاية، حيث يمكن أن يصل عدده في بعض الإحصائيات إلى ثلاثمائة ألف مقاتل[2]؛ منهم مائة وخمسون ألفًا كقوة رئيسة بقيادة الصدر الأعظم قرة مصطفى، بالإضافة إلى قوات مساعدة خرجت من محاور أخرى، مثل قوات تتار القرم، التي بلغت أربعين ألفًا، وقوات الملك المجري الحليف توكولي التي بلغت في بعض التقديرات سبعين ألفًا، و-أيضًا- قوات أخرى من الإفلاق، والبغدان[3]. تصل بعض التقديرات بالجيش العثماني إلى نصف مليون جندي[4]، ولكن تبدو المبالغة في هذا الرقم واضحة. توقف السلطان محمد الرابع في بلجراد، وترك الجيش يُكمل المسيرة بمفرده في اتجاه النمسا[5].
لا أدري السبب وراء تكرار فعل السلطان لهذا الأمر في مسيرة حكمه، فهذه هي المرَّة الرابعة على الأقل التي يترك فيها الجيش ليتمركز في منتصف الطريق! مرتان ضد بولندا، ومرَّة ضدَّ روسيا، وهذه المرَّة! أهو تأمينٌ للحملة، أم تأمينٌ للسلطان، أم خوفٌ من الجهاد؟ لا أدري! تحرك الصدر الأعظم في 24 مايو[6] على رأس مائة وخمسين ألفًا من بلجراد إلى الشمال[7]. كان الهدف المتفق عليه مع السلطان هو استرداد قلعة چايور Győr شمال غرب المجر (110 كيلو متر جنوب شرق ڤيينا)، ولكن في الطريق جمع الصدر الأعظم أركان جيشه وأبلغهم عن عزمه للتوجه بالجيش لفتح ڤيينا ذاتها! كان القرار مفاجئًا للجميع، واعترض بعض القادة[8] لكن الصدر الأعظم أبلغهم أن هذه فرصة عسكرية فريدة، وأنه لن يتوفر لهم جيش بهذا الحجم في وقت قريب، وأن هذا مطلوب لمباغتة النمسا قبل تكوين الأحلاف.
أمام إصراره رضخ الجيش وحوَّل مساره إلى ڤيينا[9]! أنا في الواقع لا أعتقد أن مثل هذا القرار كان وليد اللحظة. نعم السلطان محمد الرابع لم يعلم به، لأنه نُقِلَ عنه أنه قال بعد أن عرف وجهة الجيش، والتي لم يعرفها إلا بعد وصول الجيش إلى ڤيينا بستة أيام، قال: «لو كنت أعلم ذلك مقدَّمًا ما أذنت»[10]! نعم لم يكن السلطان يعلم، لكن أعتقد أن الصدر الأعظم كان متَّخِذًا هذا القرار قبل خروجه من إدرنة أساسًا! إن الخروج بهذا العدد المهول من الجنود، والتنسيق مع تتار القرم بهذه الأعداد الغفيرة، والتنسيق كذلك مع الأعوان النصارى، من المجر، والإفلاق، والبغدان؛ كل ذلك لا يكون من أجل فتح قلعة صغيرة مثل چايور مهما كانت مهمة! إن الصدر الأعظم -في غالب الامر- أخفى الأمر عمدًا عن السلطان والجيش، ولعله أقنع السلطان بالبقاء في بلجراد ليتمكن من تنفيذ خطته بمفرده. ماذا كان يهدف من وراء ذلك؟ هل يبحث عن مجد شخصي كفاتح لڤيينا عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمدينة التي فشل سليمان القانوني العظيم في فتحها، والقلعة التي لو سقطت صار الطريق إلى غرب أوروبا مفتوحًا؟ هل هو التأمين العسكري للحملة بحيث لا تصل معلوماتها إلى الاستخبارات النمساوية؟ هل هو الإهمال لكيان السلطان الضعيف، والذي ينبغي ألَّا يعرف شأنًا عسكريًّا كهذا؟ هل هو غرور الكرسي حيث يتصرف الصدر الأعظم كحاكم فعلي للبلاد منذ ولايته عام 1776م؟ قد يكون السبب واحدًا مما سبق أو غيره لكن المحصِّلة واحدة: حملة عسكرية بهذا الحجم، وقادتُها غير متفقين على وجهتها أو إدارتها!
كارثة ڤيينا (12 سبتمبر 1683م):
لا يمكن أن يتحرك جيش بهذا الحجم دون أن تدري به قوات العدو! بل على الأغلب وصلت أخبار هذا الجيش إلى مسامع الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول بمجرد خروجه من إدرنة، لأن الاستعدادات والتحالفات النمساوية التي تمت تحتاج وقتًا كافيًا كي تُنَفَّذ. تواصل الإمبراطور مع البابا إنوسنت الحادي عشر Pope Innocent XI الذي اجتهد في تهييج أوروبا لحرب العثمانيين[11]! يبدو أن البابا في هذه المرحلة التاريخية لم يعد له دور سوى حرب المسلمين، لأننا لم نرَ له أي وجود في الحروب الداخلية المتتالية التي عصفت بأوروبا في القرن الثامن عشر، وأزهقت أرواح الملايين من النصارى.
وصل أثر البابا إلى فرنسا، عدو النمساويين اللدود، حيث وافق الملك لويس الرابع عشر على توقيف أي عمليات عسكرية ضد النمسا في حدودها الغربية لإعطاء الإمبراطور النمساوي الفرصة لتوجيه كل جيوشه إلى الشرق لمحاربة العثمانيين[12]! كانت أهم التحالفات العسكرية التي تمت تلك التي حدثت مع الملك البولندي الشهير چون سوبايسكي، الذي غدر بعهده الذي عقده مع الدولة العثمانية في معاهدة زوراونو 1676م، وقرر أن يحاربها إلى جانب النمسا، وجاء إليها بجيش يبلغ -في التقديرات البولندية- سبعة وعشرين ألف مقاتل[13].
جاءت مساعدة مهمة كذلك من إمارة لورين Lorraine، وكانت إمارة مستقلة آنذاك، تُقَدَّر بعشرين ألف مقاتل، يقودها أميرها القدير عسكريًّا تشارلز الخامس Charles V[14]. هذا بالإضافة إلى جيوش مساعدة من ساڤوي، ومن الإمارات الألمانية المختلفة؛ كباڤاريا، وساكسوني، وغيرهما[15]. على الرغم من هذه المساعدات كان الإمبراطور النمساوي قلقًا للغاية من هذا الغزو، مما دعاه إلى الفرار العجيب من العاصمة إلى مدينة باساو Passau[16] (في ألمانيا الآن) على بعد 220 كيلو متر غرب ڤيينا، آخذًا معه بلاطه الحاكم، بالإضافة إلى ستين ألفًا من أهل ڤيينا[17]! ترك الإمبراطور المدينة العتيدة في حماية خمسة عشر ألف جندي فقط، على أكثر تقدير، مع أقل من عشرة آلاف مواطن، وذلك تحت قيادة القائد العسكري للمدينة إرنست روديچير ڤون ستارهيمبرج Ernst Rüdiger von Starhemberg[18].
وصل الجيش العثماني إلى ڤيينا في 14 يوليو[19]، وبدأ الحصار الفعلي للمدينة في 17 يوليو[20]. لم تكن العلاقات جيدة بين قادته. كان هناك خلاف بين الصدر الأعظم وحاكم بودا إبراهيم باشا[21]، علمًا بأن هذا الأخير كان زوج أخت السلطان[22]، وكان هناك خلاف كذلك بين الصدر الأعظم وخان القرم مراد كيراي[23]. عمومًا كانت هذه إرهاصات غير جيدة لأن الجيش كان يعمل كجزر منفصلة لا رابط لها. نشر الصدر الأعظم قواته على مساحات واسعة [24] للسيطرة على محاور المدينة المختلفة، وهذا أدى إلى تشتيت قواته إلى حدٍّ ما، كما لم يُحْسِن اختيار المواقع التي يقصف منها المدينة. كانت المدينة -على الرغم من تهالكها لقدمها- حصينة بشكل كبير، وكانت أسوارها مزدوجة مما يعطيها مناعة جيدة ضد القصف.
لم تكن مدافع العثمانيين البالغة مائة وثلاثين مدفعًا بكافية ضد مدافع ڤيينا البالغة أكثر من ثلاثمائة وسبعين مدفعًا[25]. منع العثمانيون وصول أي إمدادات إلى المدينة، ولذا كان من المتوقع أن تسقط على الأقل لنقص الطعام[26]. أنفق الصدر الأعظم وقتًا طويلًا في حفر الأنفاق تحت الأسوار، وقصف المدينة، ولكن ذلك لم يُجْدِ نفعًا[27]. عرض قائد المدينة روديچير أن يتفاوض مع الصدر الأعظم في شروط التسليم لكن القائد العثماني أصر على تسليم المدينة دون شروط، وكان هذا أحد أكبر الأخطاء، لأن الوقت لم يكن في صالحه؛ إذ كلما مرت الأيام كان وصول الجيوش المساعِدة متوقَّعًا[28]، مما سيغيِّر معادلة الحرب. يرى بعض المؤرخين أن الصدر الأعظم لم يأمر بهجوم شامل على المدينة لكيلا توزع غنائمها على الجيش إذا فتحها عنوة، وكان يريد الاستسلام غير المشروط لتذهب الغنائم إلى الدولة، وفي هذا تثبيت لمركزه بشكل أكبر[29].
حدث ما كان متوقعًا، ووصل الجيش البولندي إلى النمسا في 6 سبتمبر 1683م، وكان لا بد له من عبور نهر الدانوب عند جسر مدينة تولن Tulln على بعد ثلاثين كيلو متر شمال غرب ڤيينا، ليتَّحد مع الجيوش النمساوية الأخرى[30]. كانت مهمة حماية الجسر موكلة إلى تتار القرم، وكان لا بد لهم من قطع الجسر، أو محاربة الجيش البولندي لمنعه من العبور، لكن ذلك لم يتم، وعبر سوبايسكي بجيشه كله آمنًا[31]! تتحدث المصادر التركية عن خيانة متعمدة من مراد كيراي نتيجة خلافاته مع الصدر الأعظم[32]!، وإن كان بعضهم يفترض أن القصور العسكري لخان القرم كان ناتجًا من ضعف تسليحه بالمقارنة بالأسلحة الأوروبية[33]، خاصة أن جيوش تتار القرم كانت بدائية جدًّا، وتعتمد على أسلحة القرون الوسطى لا المدافع والبنادق.
أنا لا أعتقد أنه تعمَّد الخيانة، وإلا عُوقِب بالقتل بعد المعركة، ولكن الواقع أن الدولة اكتفت بعزله[34]، بينما قتلت غيره. اتَّحد الجيش البولندي، مع الجيش الإمبراطوري، وجيش إمارة لورين، وذلك تحت القيادة العامة للملك البولندي چون سوبايسكي[35]. أقبلت الجيوش في اتجاه ڤيينا، ووصلت في 11 سبتمبر إلى حدودها[36]. كان من الواجب على الجيوش العثمانية تفريق هذه الجيوش قبل اتحادها سويًّا حول المدينة، ولكن يبدو أن الصدر الأعظم كان يتوقع سقوط المدينة في أي لحظة، مما جعله يُطاوِل في الحصار إلى هذه الدرجة. كان خطأً كبيرًا لأن المدينة كانت ستسقط على كل حال لنقص الطعام، ولكن هكذا جرت الأمور، وصار الجيشان في مواجهة بعضهما البعض.
كان الجيش العثماني قد أرهق بشدة نتيجة الحصار الطويل الذي قارب على الشهرين، وكانت الخلافات تمزقه، ولهذا لم يكن أداؤه في المعركة كعادته في مثل هذه المعارك المفتوحة، على الرغم من أنه يبلغ ضعف الجيش الصليبي تقريبًا. يذكر أوزتونا -أيضًا- أمرًا مؤسفًا، وهو أن الجيش كان يقضي ليالي الحصار في شرب الخمر[37]! لا أدري أي نفوسٍ هذه التي تجمع الخمر والجهاد في ميدان واحد!
في يوم 12 سبتمبر، وبعد هجمات متبادلة حدثت إصابات كبيرة في الميمنة العثمانية[38]، والتي يقودها إبراهيم باشا والي بودا. اضطر الباشا إلى الانسحاب ضد الضغط المستمر للصليبيين. تذكر بعض المصادر أن انسحابه كان متعمَّدًا للتسبب في هزيمة يمكن أن تزحزح الصدر الأعظم عن مكانه في الحكومة[39]! أنا لا أعتقد في هذا الأمر، وأرى أنه انسحب لأنه رأى أن ثباته سيُهْلِك الفرقة التي معه. ليس بالضرورة أن يكون رأيه صائبًا بالانسحاب، ولكن وصمه بالخيانة يحتاج إلى دليل قوي، والثابت أنه قال عند إعدامه لاحقًا: لن يقوى على إخراج الدولة من هذه الأزمة إلا قرة مصطفى باشا[40]، فإذا كانت بينه والصدر الأعظم هذه الخصومة التي تدعوه إلى التسبب عمدًا في هزيمة المسلمين، فكيف يمدحه هكذا، ويوصي باستمراره في منصبه؟ وأيًّا كان الأمر فقد انكسر الجيش العثماني فجأة نتيجة هذا الانسحاب.
رأى سوبايسكي هذه النتيجة التي وصلت إليها المعركة فقرَّر القيام بهجمة مباغتة بسلاح الفرسان (cavalry charge) لإحداث صدمة (Shock attack) في الجيش العثماني. يُقَال إن هذه أكبر هجمة من نوعها في تاريخ حروب العالم كلها! شارك في هذه الهجمة عشرين ألف فارس دفعة واحدة[41]! كانت هدف الهجمة الوصول إلى معسكر القيادة نفسه! تحقق الهدف بنجاح كبير، وما هي إلا لحظات وكان الصليبيون في خيمة الصدر الأعظم[42]!
تساقط القتلى هنا وهناك، وأدرك قرة مصطفى باشا أن البقاء أكثر في أرض القتال لا يعني إلا مزيدًا من الشهداء والأسرى، خاصة وقد خرج الجيش النمساوي الذي كان محاصَرًا داخل ڤيينا بعد انكسار الجيش العثماني، مما زاد من قوة الصليبيين. أصدر الصدر الأعظم قراره بالانسحاب المؤسف. ترك العثمانيون وراءهم كل السلاح الثقيل، وغَنِم الصليبيون كلَّ ما كان مع الجيش العثماني من مؤن، وحيوانات، وخيام، ومعدات حصار، وعربات نقل، وأمتعة[43]، بل غنموا خيمة الصدر الأعظم[44]، وهي معروضة في متحف ڤيينا إلى زماننا الآن[45]. قُتِلَ من الجيش العثماني في هذه المعركة أكثر من عشرة آلاف، وأُسِر خمسة آلاف[46].
انسحب الجيش العثماني شرقًا، ووصل إلى قلعة چايور في 14 سبتمبر. هناك أصدر الصدر الأعظم قرارًا بإعدام إبراهيم باشا زوج أخت السلطان بتهمة الخيانة العظمى لفراره من أرض القتال[47]! كان القرار متسرِّعًا جدًّا في رأيي، فلا محاكمة، ولا تقدير للظروف الإجمالية التي أدت إلى هذه الكارثة. هذا الإعدام -أيضًا- يكشف لنا مدى عدم اكتراث الصدر الأعظم بالسلطان إلى الدرجة التي يقتل فيها زوج أخته دون الرجوع إليه! -أيضًا- أصدر الصدر الأعظم قرارًا بعزل خان القرم مراد كيراي، وتولية ابن عمه حاچي كيراي[48].
لم يكتفِ الصليبيون بالنصر في ڤيينا بل تتبعوا الجيش العثماني بقيادة الملك البولندي. حدث قتال جديد عند مدينة باركاني Párkány (الآن ستوروڤو Štúrovo في سلوڤاكيا) في الفترة من 7 إلى 9 أكتوبر، وفقد المسلمون فيه تسعة آلاف جندي[49]! وصلت أخبار الهزيمة إلى السلطان محمد الرابع في بلجراد، فعاد حزينًا إلى إدرنة[50]. بعد موقعة باركاني عبر الجيش الصليبي نهر الدانوب إلى قلعة إزترجوم Esztergom الاستراتيجية (شمال غرب المجر، على الضفة المقابلة لمدينة باركاني على نهر الدانوب)، والتي يمتلكها العثمانيون منذ عام 1605م، فأسقطوها في أول نوفمبر 1683م[51]. انسحب الصدر الأعظم والجيش إلى بودا، ومنها إلى بلجراد[52]، واكتفى الصليبيون بهذا الإنجاز في هذا العام.
ظلَّ الصدر الأعظم في بلجراد، ولم يرحل إلى إدرنة لمقابلة السلطان! هل كان يخشى لقاءه، أم أُمِر بذلك، أم لضرورة عسكرية؟ لا ندري، ولكنه بقي ينتظر الأخبار. في 15 ديسمبر صدر في إدرنة القرار بعزله من منصب الصدارة، وتولية قرة إبراهيم باشا[53]، وبعدها بعشرة أيام، في 25 ديسمبر 1683م، أُعْدِم قرة مصطفى باشا[54] في بلجراد عقابًا على هزيمة ڤيينا! إنها القرارات العشوائية غير المبنية على دراسة أو تمحيص.
لم يلتقِ السلطان بالصدر الأعظم ليسمع منه، أو يفهم خلفيات المعركة، على الأقل للاستفادة من تقييمه للحدث، ولإبراء الذمة في أنه لم يُقُتَل مظلومًا. كانت قرارات الإعدام تخرج بسهولة بالغة في هذا الزمن. في الواقع لم يكن قرة مصطفى عسكريًّا قديرًا، ولكنه كان إداريًّا متميِّزًا على المستوى الداخلي، ولهذا كان يدير شئون الدولة أيام الصدر الأعظم السابق فاضل أحمد كوبرولو بينما كان يتفرغ الأخير للمعارك والشئون الخارجية. كان من الممكن أن يُبقيه السلطان لهذه المهامِّ الداخليَّة التي يبرع فيها، ولا داعي لأن يُفْقِد الدولةَ طاقاتها في هذا الوقت الحرج. لم يكن هناك في الواقع مَنْ يملأ فراغ قرة مصطفى باشا في هذا التوقيت، فانتقلت الدولة من تخبُّط إلى آخر! يسخر المؤرخ الإنجليزي وليام مورفيل William Morfill من هذا الموقف ويقول: «واجه قرة مصطفى المصير المعتاد الذي يواجهه الوزراء وقادة الجيش الخاسرون في المعارك في الدولة العثمانية؛ الخنق بحبل القوس»[55]!
في الواقع كانت سخرية وليام مورفيل في محلها! فكم من الطاقات أزهِقت أرواحُها لأجل هزيمة أو انسحاب، وهذا في الحقيقة قِصَر نظر، وضعف في القيادة، وهدر في القوة، وظلم في الحكم؛ وقلة في الدين؛ ولا يمكن لعاقل أن يُقِرَّ هذه الاستهانة بالدماء، كما أن هذا المصير المشئوم قد يدفع القائد إلى القتال حتى النهاية ولو فقد الجيش كله، لأنه في كل الأحوال ميت، وهذا قد يفسِّر من جانبٍ الأعداد الغفيرة للشهداء في المعارك العثمانية، وذلك بما قد لا يوازي النصر المتحقق في المعركة.
كانت معركة ڤيينا عبارة عن مجموعة من الأخطاء المركَّبة، سواء من ناحية قرار حصار المدينة نفسه، أم من ناحية تكتيكات الحصار والقتال، أم من ناحية إدارة المعركة، والعلاقة بين قادة الجيش، أم من ناحية عدم الالتزام الخلقي والشرعي عند الجنود، ومع ذلك لم تكن هذه الهزيمة من الناحية العسكرية فريدةً من نوعها؛ فالشهداء الذين قدمهم الجيش العثماني في معارك سابقة أكبر من هذا الرقم بكثير، كما لم يكن عجيبًا أن يخسر العثمانيون معركةً، أو ينسحبوا في قتال، فقد حدث هذا قبل ذلك، ولكن المؤسف حقًّا في هذه المعركة أنها غيَّرت قناعاتٍ كثيرة عند الطرفين؛ المسلم والصليبي.
لقد اقتنع العثمانيون بعد هذه الموقعة أن قدرتهم على اختراق أوروبا صارت غير ممكنة، وبالتالي سينتهجون، من الآن وصاعدًا، المنهج الدفاعي، وستكون كل حروبهم، في العمر المتبقي لدولتهم، على أرضهم، وليس في أرض الأعداء. أما الصليبيون فقد تجدَّد عندهم الأمل، الذي كاد يموت، في إمكانية إخراج العثمانيين من أوروبا، أو على الأقل من شمال الدانوب في هذه المرحلة، ثم لاحقًا من البلقان، وستكون خطواتهم في المراحل التاريخية المقبلة منطلقة من هذه الروح. كان الصليبيون قبل هذه الموقعة قد وصلوا إلى قناعة بأن الوجود العثماني في أوروبا أمر لا مفرَّ منه، وأنه واقعٌ ينبغي قبوله بشكل أو آخر، فجاءت كارثة ڤيينا لتغيِّر من مسار أوروبا بشكل فريد.
لقد ظلت معركة ڤيينا باقية في الوجدان الأوروبي، وما زالوا يحتفلون بها إلى زماننا الآن! إنها ما زالت موجودة في أدبهم، ومسرحياتهم، ومتاحفهم، وكنائسهم. يكاد يُجْمِع المؤرخون على أن هذه المعركة هي التي أوقفت زحف العثمانيين في أوروبا، كما أنها حرمت الفرنسيين من تَسَيُّد أوروبا؛ لأن انتصار النمسا أعاد لها بريقها، ولم يعطِ لويس الرابع عشر ملك فرنسا الفرصة لقيادة الأوروبيين. -أيضًا- كان فرار العثمانيين مرعوبين سببًا في اهتزاز قوتهم وهيبتهم، ولهذا يعتبر المؤرخون المعركةَ حدثًا حاسمًا جدًّا في تاريخ أوروبا»[56]!
وعمومًا، لم تكن معركة ڤيينا نهاية للحرب العثمانية النمساوية في هذه المرحلة، بل كانت فقط البداية! وستستمر الحرب ستَّ عشرة سنةً كاملة، ولن يكون هناك في أوروبا حدث يوازيها في الأهمية طوال هذه الفترة. إنها الحرب التركية العظمى كما يسميها الأوروبيون[57].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/527.
[2] Harbottle, Thomas Benfield: Dictionary of Battles from the Earliest Date to the Present Time, E.P. Sutton & Co, London, UK, 1905., p. 262.
[3] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 660.
[4] Kurat, A. N.: The Ottoman Empire Under Mehmed IV, In: Carsten, F. L.: The New Cambridge Modern History, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1961., vol. 5, p. 513.
[5] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 379.
[6] أوزتونا، 1988 صفحة 1/527.
[7] Tucker, 2010, vol. 2, p. 660.
[8] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 320.
[9] Young, William: International Politics and Warfare in the Age of Louis XIV and Peter the Great: A Guide to the Historical Literature, iUniverse, Inc, New York, USA, 2004., p. 431.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/528.
[11] Chaurasia, Radhey Shyam: History of Europe: 1649-1789, Volume 2, Atlantic Publishers & Distributors, New Delhi, India, 2002., vol. 2, p. 157.
[12] كولز، بول: العثمانيون في أوروبا، ترجمة: عبد الرحمن عبد الله الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م. صفحة 192.
[13] Podhorodecki, Leszek: Wiedeń 1683, Dom Wydawniczy Bellona, Warsaw, Poland, 2001., p. 105.
[14] Tucker, 2010, vol. 2, p. 660.
[15] Nolan, Cathal J.: Wars of the Age of Louis XIV, 1650-1715: An Encyclopedia of Global Warfare and Civilization, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2008, p. 25.
[16] كينروس، 2002 صفحة 380.
[17] Tucker, 2010, vol. 2, p. 660.
[18] Palmer, Alan Warwick: The Decline and Fall of the Ottoman Empire, Barnes & Noble Publishing, 1992., p. 12.
[19] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م. صفحة 33/85.
[20] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 520.
[21] أوزتونا، 1988 صفحة 1/532.
[22] Uluçay, Mustafa Çağatay: Padişahların kadınları ve kızları, Ötüken, Ankara, Turkey, 2011., pp. 63-65.
[23] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/531، 532.
[24] أوزتونا، 1988 صفحة 1/529.
[25] Ágoston, Gábor: Vienna, sieges of (1529, 1683), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (M).p. 584.
[26] ديورانت، 1988 صفحة 33/85.
[27] Tucker, 2010, vol. 2, p. 660.
[28] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 280.
[29] Kurat, 1961, vol. 5, p. 516.
[30] Morfill, William Richard: The Story of Poland, G. P. Putnam's sons, London, UK, 1893., p. 162.
[31] Kurat, 1961, vol. 5, p. 516.
[32] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/531، 532.
[33] Kurat, 1961, vol. 5, p. 516.
[34] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. xlviii.
[35] Kurat, 1961, vol. 5, p. 516.
[36] Overy, Richard: A History of War in 100 Battles, Oxford University Press, New York, USA, 2014., p. 57.
[37] أوزتونا، 1988 صفحة 1/533.
[38] Grant, R. G.: 1001 Battles That Changed the Course of History, Chartwell Books, New York, USA, 2017., pp. 378-379.
[39] أوزتونا، 1988 صفحة 1/534.
[40] أوزتونا، 1988 صفحة 1/535.
[41] Overy, 2014, p. 58.
[42] Tucker, 2010, vol. 2, p. 661.
[43] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 301.
[44] كينروس، 2002 صفحة 383.
[45] كواترت، دونالد: الدولة العثمانية 1700-1922، ترجمة: أيمن الأرمنازي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 2004م. صفحة 30.
[46] Tucker, 2010, vol. 2, p. 661.
[47] أوزتونا، 1988 صفحة 1/534.
[48] Somel, 2010, p. xlviii.
[49] Stoye, John: The Siege of Vienna: The Last Great Trial Between Cross & Crescent, Pegasus Books, New York, USA, 2008., pp. 179-181.
[50] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/603.
[51] Somel, 2010, p. xlviii.
[52] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م. صفحة 141.
[53] أوزتونا، 1988 صفحة 1/542.
[54] مانتران، روبير: الدولة العثمانية في القرن السابع عشر: اتجاه إلى الاستقرار أم انحدار، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (ب). صفحة 1/373.
[55] Morfill, William Richard: The Story of Poland, G. P. Putnam's sons, London, UK, 1893., p. 163.
[56] Chaurasia, 2002, vol. 2, p. 157.
[57] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 746- 755.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك