الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
حظر التجوال الذي شهدناه في أيامنا تلك في أغلب البلاد بسبب انتشار وباء كورونا، إذا تتبعنا تاريخنا الإسلامي نجد أنه لم يكن بدعةً في التاريخ؛ بل قد يتعجب
في أيامنا تلك التي نسأل الله أن يُسَلِّمَنا فيها ويحفظ العالمين من البلاء والوباء الذي أَلَمَّ بالعالم كلِّه، نجد أنَّ أغلب دول العالم وخاصَّةً دولنا الإسلاميَّة فرضت حظر التجوال على شعوبها سواءٌ بصورةٍ كلِّيَّةٍ أم جزئيَّة، وذلك ضمن الإجراءات الاحترازيَّة التي تقوم بها الدول للحدِّ من انتشار جائحة (فيروس كورونا - كوفيد 19).
رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من طبق حظر التجوال!
وقد يكون من الجديد على أسماع الكثيرين أن يعلموا أنَّ تطبيق حظر التجوال ليس من الأمور المستجدَّة في تاريخنا الإسلامي؛ بل سيعجب الكثيرون عندما يعرفون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من طبق حالة الطوارئ وحظر التجوال ومنع خروج الناس من بيوتهم في التاريخ الإسلامي.
وقد حدث ذلك في العام الثامن من الهجرة النبوية المشرفة، وذلك في "فتح مكة"؛ فعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أخبر أهلها أنَّ من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن..
فكان هذا إيذانًا بأنَّ من كان في الطرقات فهو محاربٌ مخالفٌ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذِنًا بقتاله، وبالفعل حدث من بعضهم مثل هذا فقاتلهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، وإنَّ من فرَّ منهم توعَّدَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدر دمه إلَّا من أمَّنه أحد الصحابة وعفا عنه صلى الله عليه وسلم.
فبهذا تطبَّق مفهوم الطوارئ وحظر التجوال بشكلٍ جَلِيٍّ على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستمر لبضع ساعات ورُفِعَ بعدها، ولكن سنَّهُ رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه لحفظ الدماء والأرواح وحفظ النظام..
ولم يكن موقف فتح مكة هو الأخير؛ فنجد -أيضًا- في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنَّ زياد بن أبيه واليه على البصرة قد فرض حظر التجوال كذلك..
زياد ابن أبيه وخطبته البتراء
فقد أعلن حالة الطوارئ في البصرة وهدَّد بقتل كلِّ من تُسوِّل له نفسه خرق حظر التجوال؛ فقال في خطبته البتراء الشهيرة لدى تولِّيه مقاليد الحكم في البصرة:
أسباب شدته على أهل العراق (البصرة) ووعيده لهم:
"... ما أعدَّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينَه الدنيا، وسدت مسامعُه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقيةِ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدثَ الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم للضعيف يُقهر ويؤخذ مالُه، هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعددُ غيرُ قليل، ألم يكن منكم نُهاةٌ، تمنعُ الغُوَاةَ عن دَلَج الليل، وغارةِ النهار؟ قرَّبْتُم القرابة، وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر، وتغضُّون على المختلس، كلُّ امرئ منكم يذُبُّ عن سفيهٍ صنيعَ من لا يخاف عاقبةً ولا يرجو معادًا، ما أنتم بالحُلَمَاء، ولقد اتَّبَعْتُم السفهاء؛ فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حُرم الإسلام..
الأمر بالمكوث في البيت وعدم الخروج ليلًا (حظر التجوال):
ثم أطرقوا وراءكم، كُنُوسًا في مكانسِ الرِّيب حرامٌ عليَّ الطعام والشراب، حتى أُسَوِّيَها بالأرض هدمًا وإحراقًا.
إنِّي رأيتُ آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوَّله، لينٌ في غير ضعف، وشدَّةٌ في غير عنف، وإنِّي أُقسم بالله لآخذنَّ الوليَّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول: "انج سعد فقد هلك سعيد" أو تستقيم لي قناتكم... من نقب منكم عليه فأنا ضامن لِمَا ذهب منه، فإيَّاي ودلج (خروج) الليل، فإنِّي لا أوتى بمدلجٍ إلا سَفَكْتُ دمه، وقد أجَّلْتُكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبرُ الكوفة ويرجعُ إليكم (مقدار ليلة)، وإيَّاي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قَطَعْتُ لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكلِّ ذنبٍ عقوبة، فمن غَرَّقَ قومًا غرَّقْناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نَقَّب بيتًا نقَّبْنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفنَّاه حيًّا فيه، فكفُّوا عنِّي أيدكم وألسنتكم، أكففْ عنكم يَدَيَّ ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبةً بخلاف ما عليه عامَّتكم إلَّا ضربتُ عنقه..."[1].
فقد أسَّس زياد بن أبي سفيان (ابن أبيه) شرطة البصرة، وهى التي قامت بتنفيذ قراراته بالقوَّة؛ لمطاردة اللصوص وقطاع الطرق والأشقياء والمتمردين والثوار الخارجين عن الدولة..
وبعد أن ألقى زياد خطبته المشهورة بالبتراء بالبصرة التي منع فيها على الناس الخروج ليلًا، وأصدر قرار حظر التجوال، كلَّف صاحب الشرطة بالخروج إلى شوارع البصرة فإذا وجد عاصيًا للأوامر يقبض عليه، وقد كلَّف زياد شخصين بهذه المهمَّة هما عبد الله بن حصن، والجعد بن قيس.
ثم أصبحت سُنَّةً بعد ذلك في مواقف الفتن والابتلاءات وكلما تطلب حفظ الأمن والنظام، والأهم من كليهما حفظ الأنفس والدِّماء..
[1] أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، المكتبة العلمية بيروت-لبنان، 2/273.
التعليقات
إرسال تعليقك