التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من أجل انتصار الصليبيين على المسلمين في بلجراد، أمر البابا أن تُدقَّ أجراس الكنائس عند الظهيرة لتذكير النصارى بالصلاة والدعاء.
يذكر بابينجر أنَّ السلطان الفاتح وصل الأراضي الصربيَّة في 9 يونيو 1456م[1]، وهذا يعني أنَّه خرج من أدرنة (حوالي خمسمائة كيلو متر إلى الجنوب الشرقي من نقطة دخوله صربيا) في أواخر شهر مايو، ومع ذلك فهو لم يقترب من بلجراد إلَّا في يوم 3 يوليو[2]، وذلك بعد اكتمال وصول أدوات الحصار والمدافع الثقيلة.
كان الغرض من الحملة هو فتح بلجراد، وهذا يعني قتال المجريِّين الذين يُسيطرون على المدينة منذ عام 1427م، وبالتالي كان السلطان محمد الفاتح راغبًا في تحييد چورچ برانكوڤيتش زعيم صربيا، وهذا دعاه إلى الحفاظ على المناطق التابعة له أثناء حركة جيشه من شرق صربيا إلى بلجراد لكيلا يُثير حفيظة الصربيِّين[3]، ومن جانبه كان برانكوڤيتش يُريد الشيء نفسه؛ فهو لا يُريد أن يُثير غضب السلطان الفاتح، وفي الوقت نفسه لا يُريد إثارة النصارى والبابا بالوقوف ضدَّ المجريِّين، ولذلك آثر أن يكون على الحياد في هذا الصدام المرتقب[4].
الآن الفاتح ينظر إلى مدينة بلجراد للمرَّة الأولى في حياته!
مدينة بلجراد من أحصن المدن الأوروبِّيَّة في هذه الحقبة التاريخيَّة، بل يُمكن أن تكون أحصن مدن البلقان، إذا استثنينا القسطنطينية، وقد اختير مكانها بعناية؛ فهي مبنيَّةٌ عند التقاء نهري الدانوب وساڤا، بحيث يُمثِّل نهر الدانوب حمايةً شماليَّةً لها، ونهر ساڤا حمايةً غربيَّةً لها، وتبقى نواحيها الشرقيَّة والجنوبيَّة برِّيَّة (خريطة رقم 7)، وهذه النواحي البرِّيَّة محميَّةٌ بأسوارٍ ذات طبقتين، وأمام الأسوار خندقٌ عميق، وفي داخل الأسوار توجد قلعةٌ ضخمةٌ منيعة، وبها عدَّة مدافع من أقوى المدافع الأوروبِّيَّة آنذاك، بل إنَّ منها ثلاثة لا يوجد مثلها في الحجم في أوروبَّا[5]، اللهمَّ إلَّا إذا أخذنا في الاعتبار مدفع أوربان الذي تمتلكه الدولة العثمانيَّة.
إنَّ هذا النسق من التحصينات يُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ تحصينات القسطنطينيَّة من ناحية الشكل العام؛ إذ إنَّ جانبًا من المدينة بحريٌّ وآخر بري، وإن كانت القسطنطينيَّة تتميَّز بقوَّة الأسوار وارتفاعها، وكونها محاطةً من الناحية البحريَّة ببحر مرمرة والخليج الذهبي، وهي حمايةٌ طبيعيَّةٌ أقوى من الأنهار التي تُحيط ببلجراد، ومع ذلك فبلجراد تتميَّز عن القسطنطينيَّة بكونها متَّصلةً من شمالها وغربها بأوروبَّا النصرانيَّة، ومددها من المجر وشمال صربيا قريب، كما أنَّها تتميَّز بوجود المدافع الحديثة، فضلًا عن أنَّ الجيش المجري الذي يتكفَّل بحمايتها أقوى بكثيرٍ من جيش الدولة البيزنطيَّة.
تختلف التقديرات لعدد أفراد الجيش العثماني بشكلٍ كبير؛ فبعضهم يرتفع بها إلى مائةٍ وخمسين ألفًا[6]، أو مائة ألف[7]، وبعضهم يهبط بها إلى ثلاثين ألفًا فقط[8]! بينما المتوسِّط -وهو أقرب في رأيي- يُقدِّرها بستِّين ألف مقاتل[9]. أمَّا التسليح فكان فائق المستوى؛ إذ كان مع الجيش اثنان وعشرون مدفعًا كبيرًا[10]، والكثير من المدافع الصغيرة تُقدِّرها بعض المصادر بثلاثمائة مدفع[11]، هذا بالإضافة إلى مائتي سفينةٍ حربيَّةٍ نهريَّةٍ جاءت عبر الدانوب إلى بلجراد[12].
لم تكن القوَّة المدافعة عن بلجراد كبيرة! كانت أوروبَّا -على الرغم من حماسة البابا كاليكستوس الثالث لقتال المسلمين- متخاذلةً إلى درجةٍ كبيرةٍ في نصرة الأهداف النصرانيَّة بشكلٍ عامٍّ، وكانت الصراعات الداخليَّة تشمل كلَّ بقاعها، ولم تفلح نداءات البابا ولا قساوسته في استنفار الأمراء والزعماء، ولذلك، فمع الرعب الكبير الذي أصاب أوروبَّا نتيجة تقدُّم السلطان الفاتح صوب بلجراد، لم نجد دولةً أوروبِّيَّةً تقف إلى جوار المجر في أزمتها.
كان هونيادي -وهو الحاكم العسكري للمجر- يُعَدُّ هو الحاكم الفعلي لها؛ فملكها لاديسلاس الخامس Ladislaus V في السادسة عشرة من عمره، وهو تحت الوصاية العسكريَّة، ولا شأن له في إدارة البلاد، ولذلك كانت آمال أوروبَّا كلِّها معلَّقةً في هذا القائد الشهير، وكان هونيادي يُدرك هذه الوضعيَّة، ولذلك بذل قصارى جهده لتجميع ما يُمكِّنه منفردًا من مقاومة الجيش العثماني، ومع ذلك كان نبلاء المجر يكرهونه لمكانته التي وصل إليها مع كونه ليس من العائلات الملكيَّة الحاكمة، فلم يقفوا معه، وكأنَّهم لا يُريدون المشاركة في مجدٍ يُنسب إلى هونيادي لا إلى المجر، وخلاصة القول: إنَّه لم يستطع أن يجمع جيشًا احترافيًّا مناسبًا؛ إنَّما كان جيشه أربعة آلاف مقاتلٍ فقط[13]، أو ستَّة آلاف على أكثر تقدير[14].
كان من الممكن أن تكون الصورة قاتمةً جدًّا بالنسبة إلى مملكةٍ كبيرةٍ كالمجر لا تستطيع أن تُجهِّز جيشًا مناسبًا لحرب الدولة العثمانيَّة، لولا ظهور شخصيَّةٍ دينيَّةٍ نصرانيَّةٍ قامت بجهدٍ كبيرٍ لمحاولة إنقاذ ما يُمكن إنقاذه في هذا الموقف المعقَّد!
إنَّه القسُّ الإيطالي چون John، وهو قسٌّ لبلدةٍ صغيرةٍ في جنوب إيطاليا اسمها كابسترانو Capistrano، وهي تابعةٌ لمملكة نابولي آنذاك، ولهذا يُعْرَف هذا القسُّ باسم چون كابسترانو John of Capistrano، أو چيوڤاني كابسترانو Giovanni Da Capestrano.
كان هذا القسُّ هو مبعوث البابا لمجلس الشيوخ المجري (الدايت) في فبراير 1456م؛ وذلك لحثِّ المجريِّين على المشاركة في حربٍ صليبيَّة[15]، وكان هذا قبل أن يعلم البابا أو أوروبَّا أنَّ السلطان محمدًا الفاتح سيتحرَّك بجيشه إلى بلجراد في الصيف.
كان القسُّ چون كاثوليكيًّا على المذهب الفرنسيسكاني، وكان من أكثر القساوسة بلاغةً وحماسة، ولم تكن أكبر الكنائس في أوروبَّا تستوعب عدد الحضور له، ولذلك كان يعظ في الميادين العامَّة، ولقد خطب في بريشيا Brescia الإيطاليَّة في مائةٍ وستَّةٍ وعشرين ألف إنسان[16]!
تلكَّأ الدايت المجري في فكرة المشاركة في الحملة الصليبية الباباويَّة، لكنَّه قرَّر الموافقة على ذلك في يوم 6 أبريل 1456م، على أن تكون مشاركته في شهر أغسطس المقبل، ولكنَّه وصلته الأنباء في الوقت نفسه أنَّ محمدًا الفاتح قد تحرَّك بالفعل في اتِّجاه صربيا، فلم يعد له سبيلٌ من العمل[17].
لم ينتظر چون كابسترانو عمل الحكومة المجريَّة؛ إنَّما انطلق بنفسه يجمع الأنصار من الصليبيِّين من الفلاحين، والعمال، والطلبة، ورجال الدين، والعامَّة، وكان يتحرَّك في عدَّة دول، ولكن كان جمعه الأساسي من المجر والنمسا[18]. في الوقت نفسه كان هونيادي يتحرَّك هو الآخر مع قساوسته ليجمع صليبيِّين جددًا للقتال، واستطاع تحقيق بعض النجاح، ولكن كان ما جمعه چون كابسترانو أكثر بكثير، وقد بلغ مجموع هؤلاء الصليبيِّين في بعض الروايات حوالي ستِّين ألف رجل، وعلى الرغم من كونهم غير محترفين، وغير مجهَّزين بأسلحةٍ عسكريَّة، إنَّما فقط بالعصى، والخناجر، والبلط، وأدواتهم الخاصَّة، فإنَّهم كانوا متحمِّسين للغاية، ومقبلين على القتال بروحٍ معنويَّةٍ عالية[19]، ومع ذلك فقد كانت تواجه هؤلاء مشكلة النقل إلى بلجراد من بلادهم البعيدة، ولقد جاء چون كابسترانو بنفسه مع ألفين وخمسمائةٍ من الصليبيِّين، وأدخلهم بلجراد، ثم عاد من فوره ليأتي بآخرين، وكان هذا في آخر يونيو 1456م؛ أي قبل الحصار بأيَّام[20].
أمَّا ملك المجر الصغير لاديسلاس الخامس، فقد آثر السلامة، وهرب حيث الأمان إلى ڤيينا بالنمسا، تاركًا هونيادي يتولَّى دفَّة الأمور بمفرده[21][22]! ومثلما فَعَل ملك المجر فَعَل النبلاء والأمراء في الدولة، وغضب لذلك القسُّ چون كابسترانو غضبًا شديدًا، وكتب إلى كبير قساوسة المجر كارڤاچال Carvajal يطلب منه أن يُخبر هؤلاء النبلاء والأمراء أنَّه ما لم يتحرَّكون إلى بلجراد فإنَّه عمَّا قريب سيزورهم الأتراك في بيوتهم! يعني احتلال المجر نفسها[23]!
كان البابا من جانبه شديد الحماسة، وقد أصدر في يوم 29 يونيو 1456م -أي قبل الحصار بخمسة أيَّامٍ فقط- منشورًا باباويًّا يدعو فيه النصارى في كلِّ أوروبَّا للصلاة من أجل انتصار الصليبيِّين على المسلمين في بلجراد، وأمر بأن تُدقَّ أجراس الكنائس عند الظهيرة تمامًا لتذكير النصارى بهذه الصلاة الخاصَّة، ولذلك يُعْرَف هذا الجرس في التاريخ بجرس الظهيرة (Noon bell)، وقد أُرسل هذا المنشور إلى كافَّة الكنائس في أوروبَّا[24][25]، ومع ذلك فلم يكن في إمكانات البابا العسكريَّة أن يُرسل جيشًا برِّيًّا إلى بلجراد؛ إنَّما كان مشغولًا في الواقع بإعداد أسطوله العسكري المجهَّز للهجوم على جزر بحر إيجة التابعة للدولة العثمانيَّة، وكانت قد وصلت السفن التي أعدَّها البابا إلى ستِّ عشرة سفينةً عسكريَّة[26].
رأى هونيادي أنَّه من الأفضل ألَّا ينتظر الجيش العثماني في بلجراد، بل أراد أن يقطع عليه الطريق قبل أن يصل إلى المدينة المهمَّة، ولذلك أرسل قوَّاته إلى مدينة كوڤين Kovin، وهي مدينةٌ قريبةٌ من سمندريَّة عاصمة صربيا في ذلك الوقت؛ أي شرق بلجراد بحوالي ستين كيلو مترًا، ومع أنَّ الفكرة من الناحية العسكريَّة جيِّدة، فإنَّها لم تُحقِّق نجاحًا؛ إذ إنَّ الفاتح أدرك وجود جيش هونيادي، ولذلك فوَّت عليه فرصة الصدام، وتجاوزه بسرعةٍ إلى بلجراد[27]. كان ما فعله الفاتح يحمل بعض المخاطر؛ إذ إنَّه ترك جيش هونيادي خلف ظهره، فكان من الممكن أن يُباغته من الوراء، ولكن يبدو أنَّ مخابرات الفاتح أدركت أنَّ جيش هونيادي صغيرٌ لا خوف منه، وعلى الأغلب سيخشى تتبُّع الجيش العثماني في الأراضي الصربيَّة، بل سينطلق إلى بلجراد بغية حمايتها من الحصار، وهذا ما كان بالفعل، وهكذا وصل الفاتح بجيشه إلى بلجراد في 3 يوليو 1456م.
قرَّر الفاتح أن يضرب الحصار من فوره على المدينة، ولكن تقدَّم له قرة چه باشا Karadja Pasha بنصيحة، فعرض ألَّا يُكرِّر السلطان ما فعله الوالد السلطان مراد الثاني منذ ستَّة عشر عامًا عندما حاصر بلجراد لمدَّة ستَّة شهور كاملة دون أن ينجح في إسقاطها؛ لأنَّ المدد كان يأتيها دومًا من شمالها وغربها، ولذلك ينصح قرة چه بأن يتجاوز السلطان الفاتح بلجراد ويفتح البلاد السلاڤيَّة في غربها؛ أي المناطق الواقعة بين نهري ساڤا Sava ودراڤا Dava، وهي أراضٍ خصبةٌ ومهمَّة، وتُمثِّل عمقًا استراتيجيًّا لبلجراد. كان الرأي -فيما يبدو لي- وجيهًا، وهو سيُجنِّب الفاتح طول الحصار مع كلِّ تبعاته لمدينةٍ حصينةٍ كبلجراد، خاصَّةً أنَّه بعيدٌ عن المدد؛ إذ إنَّ عاصمته أدرنة على بُعْدِ أكثر من ستمائة كيلو متر من بلجراد، ومراكزه العسكريَّة في صربيا ليست كبيرةً ومتوافرة.. جاء ردُّ السلطان الفاتح على قرة چه مدهشًا! لقد قال له: «إنَّ بلجراد ستسقط في أسبوعين، وسوف نصوم رمضان في بودا»[28]! وكان هذا الحوار في أوَّل شعبان عام 860هـ؛ أي يرى الفاتح أنَّ سقوط بلجراد سيتبعه فتح شمال صربيا، ثم المجر، قبل أن ينقضي شهرٌ أو شهران من هذا التوقيت!
أمام هذا الإصرار سكت قرة چه، ويأخذ بعض المؤرِّخين على الفاتح عدم أخذه بنصائح العسكريِّين[29]؛ خاصَّةً أنَّ السلطان الفاتح لم يأتِ هذه المناطق من قبل، وليست له الخبرة الكاملة بها كما كان له في أمر القسطنطينيَّة.
ضرب السلطان الفاتح الحصار حول المدينة بدايةً من يوم 4 يوليو 1456م[30]، وكان الحصار بريًّا وبحريًّا معًا؛ فالقوَّات البرِّيَّة تُغلق الناحيتين الشرقيَّة والجنوبيَّة للمدينة، بينما اشترك عددٌ من السفن العثمانيَّة في غلق نهري الدانوب وساڤا، فتمَّ الحصار من الشمال والغرب كذلك[31]، وقدَّرت بعضُ المصادر هذه السفن بستِّين سفينةً كبيرةً بالإضافة إلى مائةٍ وخمسين صغيرة، وكانت السفن مربوطةً إلى بعضها البعض بسلاسل حديديَّة لمنع الاختراق[32]. هكذا صار الوضع شبيهًا بحصار القسطنطينيَّة إذ كان من البرِّ والبحر بشكلٍ محكم.
كانت الحامية المجريَّة الموجودة في داخل الحصون وقت الحصار صغيرةً نسبيًّا؛ إذ لم تكن تتعدَّى ستَّة آلاف مقاتل تحت قيادة مايكل زيلاجي Michael Szilágyi، وهو أخو زوجة الزعيم المجري هونيادي[33]، ومعنى هذا أنَّ اختراق بلجراد قبل وصول هونيادي بدعمه يعني سقوط المدينة في أيدي العثمانيِّين، ومِنْ ثَمَّ لم يُرِد الفاتح أن يُضيَّع وقتًا، فرتَّب جنوده بسرعة؛ فجعل قوَّات الروملي في الميمنة، وجعل قوَّات الأناضول في الميسرة، أمَّا الوسط فكان فيه الإنكشارية[34]، وكانت كلُّ مجموعةٍ من هذه المجموعات الثلاث مُرَتَّبةً على ثلاثة صفوف: أمامي، وأوسط، وخلفي، ونصب السلطان خيمته خلف الإنكشاريَّة، في الصف الثالث، واستُكْمِلَت هذه الاستعدادات في ثلاثة أيَّام، وكذلك صُفَّت المدافع الثقيلة أمام الأسوار في مقدِّمة الجيش، وأخيرًا بدأ القصف المكثَّف على المدينة يوم 7 يوليو 1456م[35].
كان التوقيت الذي تمَّ فيه الحصار من أكثر الأشهر حرارةً في بلجراد، ولذلك كان الجيش العثماني يقصف المدينة بالليل، ليتجنَّب سخونة المدافع وعطبها، وكان النصارى يُحاولون إصلاح ما تهدَّم من الأسوار نهارًا إلى أن يستأنف المسلمون القصف ليلًا من جديد[36].
كان هونيادي قد وصل أوائل شهر يوليو إلى بلجراد، ولكنَّه لم يشأ أن يُحاول الدخول إلى المدينة إلَّا بعد وصول قوَّات الصليبيِّين التي يجمعها القسُّ چون كابسترانو، وكذلك وصول الأسطول البحري القادم من بودا عبر الدانوب، وقد اكتملت هذه العدَّة في يوم 14 يوليو[37].
كان الأسطول المجري مكونًّا من أربعين سفينة إلى خمسين، ولم تكن في الحقيقة سفنًا حربيَّة؛ إنَّما كانت زوارق عاديَّة حُوِّلت إلى حربيَّةٍ للتكيُّف مع الظروف، وكانت قوَّات هونيادي وچون كابسترانو تبلغ في مجموعها ثمانية عشر ألف مقاتل تقريبًا، وإن كان معظمهم من الصليبيِّين غير المحترفين، وغير المجهَّزين بأدواتٍ حربيَّةٍ جيِّدة[38].
تقدَّم الأسطول المجري عبر الدانوب من الشمال إلى الجنوب، وسارت القوَّات البرِّيَّة في الناحية الغربيَّة من النهر بمحاذاة الأسطول حتى وصلا سويًّا إلى المدينة المحاصرة، وفورًا بدأ الأسطول المجري في الاشتباك مع الأسطول العثماني عند نقطة التقاء نهري الدانوب وساڤا في معركةٍ حامية الوطيس! استمرَّت المعركة خمس ساعاتٍ متَّصلة، ويبدو -كما يقول لورد كينروس Lord Kinross- أنَّ رجال البحريَّة العثمانيَّة كانوا عديمي الخبرة؛ فقد تمكَّن الأسطول المجري غير المجهَّز من التغلُّب عليهم، واختراق سلاسلهم، ودخول المدينة[39]، ولم تكن خسارة الجيش العثماني يسيرة؛ فقد استُشهِد أكثر من خمسمائة، وغرقت ثلاث سفنٍ كبرى، وأمسك المجريُّون بأربعٍ أخرى بكامل حمولتها وسلاحها، بينما فرَّ بقيَّة الأسطول جنوبًا[40]!
كانت كارثةً على الجيش العثماني، والأكثر من ذلك أنَّ ثلاثة آلاف من الجيش المجري المحترف استطاعت دخول المدينة في اليوم التالي، ممَّا ضاعف من القوَّة الحامية، بينما عسكر الصليبيُّون غير الاحترافيِّين خارج المدينة شمال نهر ساڤا[41].
لم يتوقَّف القصف العثماني، ولم يتردَّد السلطان الفاتح في إكمال العمليَّة العسكريَّة على الرغم من الخسارة المادِّيَّة والنفسيَّة، وفي يوم 21 يوليو -بعد أسبوع من الكارثة البحريَّة- نجحت المدفعيَّة العثمانيَّة في إحداث تهدُّمٍ كبيرٍ في الأسوار في ثلاثة أماكن متفرِّقة، وكان إصلاحها مستحيلًا، ولم يشأ الفاتح أن يُضيِّع الفرصة فأمر فرقة الإنكشاريَّة باختراق المدينة ليلًا عبر الثغرات، وفي وقتٍ يسيرٍ دخل بلجراد حوالي سبعمائة جنديٍّ عثماني[42].
كان هذا الاختراق خطرًا جدًّا بالنسبة إلى المجريِّين؛ فقوَّاتهم داخل المدينة لا تزيد على ثلاثة عشر ألف مقاتل، ومنهم ألفان وخمسمائة من الصليبيِّين غير المحترفين بقيادة القسِّ چون كابسترانو، وهذا الرقم أقلُّ من الجيش العثماني بكثير، وبالتالي فإنَّ الاختراق يعني السقوط! تعامل القائد العسكري هونيادي مع الاختراق باحترافيَّةٍ كبيرة؛ إذ أمر جنوده بالاختفاء تمامًا من أمام الجيش العثماني، فلم يجد الإنكشاريَّة أمامهم بعد الاختراق جنودًا يُقاتلونهم، واعتقدوا أنَّ أهلها قد هربوا منها عبر النهر فور الاختراق، وانطلق الجنود في ربوع المدينة، بل رفعوا الأعلام العثمانيَّة فوق الأسوار، وظنَّ الجميع أنَّ المدينة قد سقطت! فجأة أمر هونيادي فرقةً من جيشه بالانطلاق نحو الثغرات المفتوحة في الأسوار، وألقوا عليها أخشابًا كثيفةً مدهونةً بالكبريت، وقاموا بإشعال النيران فيها، وفي لحظاتٍ حِيلَ بين الجنود العثمانيِّين الذين دخلوا المدينة وبقيَّة الجيش العثماني خارج الأسوار، وعند هذه اللحظة خرج الجيش المجري من مخابئه، وقاموا بذبح كلِّ أفرد الجيش العثماني داخل المدينة[43][44]! ولم يفقد النصارى في هذه العمليَّة سوى ستِّين رجلًا[45]!
كانت هذه العمليَّة برمَّتها تتمُّ في جنح ظلام الحادي والعشرين من يوليو، ولعلَّ هذا الظلام هو الذي أنهى العمليَّة بهذه الصورة المأسويَّة، خاصَّةً أنَّ الجنود العثمانيِّين الذين دخلوا المدينة يدخلونها لأوَّل مرَّة، ولا يعرفون طرقها، ولا تحصيناتها، فكان حصارهم وقتلهم في الظلام أمرًا يسيرًا على الجيش المجري.
أثَّرت العمليَّة العسكريَّة في الطرفين بدرجةٍ كبيرة، فالجيش العثماني أصابه إحباطٌ كبير، خاصَّةً أنَّهم كانوا قد ظنُّوا للحظاتٍ أنَّ المدينة قد سقطت بالفعل، أمَّا النصارى فقد ارتفعت معنويَّاتهم إلى درجةٍ كبيرة، وزادت آمالهم بشدَّة في النجاح في مقاومة الحصار.
وعلى الرغم من النجاح النصراني في عمليَّة 21 يوليو إلَّا أنَّ القائد المحنَّك هونيادي لم يُرِد أن يندفع بتهوُّر لقتال العثمانيِّين، فهو يعلم أنَّ الفرقة التي أُبيدت في داخل المدينة لا تُمثِّل شيئًا في الجيش العثماني، وأنَّ الحرب الميدانيَّة المباشرة ستكون عواقبها وخيمة على الجيش المجري، ولذلك أمر كلَّ مَنْ في المدينة بعدم الخروج مطلقًا عبر الثغرات أو الأبواب إلى الخارج، وأمر كذلك بأن تتمَّ عمليَّة إصلاح الأسوار بأسرع وقتٍ ممكن[46].
جاء يوم (22 يوليو 1456م=19 شعبان 860هـ) في بدايته هادئًا؛ الجيش العثماني يُحاول استيعاب الكارثة الثانية التي حلَّت به بعد أسبوعٍ من الكارثة البحريَّة، والسلطان الفاتح لا شَكَّ يُفكِّر في عمليَّة اقتحام جديدة، بينما النصارى يعملون في محاولة إصلاح الأسوار المتهدِّمة. في ظلِّ هذا الهدوء، وتقريبًا في منتصف النهار عند الظهيرة حدث تطوُّرٌ مفاجئ للجميع! إنَّها المفاجأة التي لم يتوقَّعها السلطان الفاتح ولا هونيادي! لقد خرج من داخل المدينة ومن خلال الثغرات في الأسوار، عددٌ صغيرٌ من الفلاحين الصليبيِّين في اتِّجاه الجيش العثماني، مخالفين بذلك أوامر هونيادي بعدم الخروج. لاحظت هؤلاء الصليبيِّين فرقةُ فرسانٍ عثمانيَّةٌ فأطلقت عليهم السهام. لم تردُّهم هذه السهام بل أكملوا طريقهم في اتِّجاه المعسكر العثماني، ولم يلبث العدد الصغير أن صار ألفًا من الصليبيِّين ثم ثلاثة آلاف! حاول هونيادي أن يمنع خروجهم فهذه عمليَّة انتحارٍ مؤكَّدة؛ إذ إنَّهم فضلًا عن قلَّة عددهم فإنَّهم لا يملكون الخبرة القتاليَّة الكافية لمواجهة جيشٍ نظاميٍّ محترفٍ كالجيش العثماني، ولكن جهود هونيادي لم تُفلح؛ إذ وصل الصليبيُّون إلى الصفِّ الأوَّل من الجيش العثماني. رأى چون كابسترانو هذا الموقف من الناحية الأخرى لنهر ساڤا حيث المعسكر الاحتياطي للصليبيِّين. فكَّر في البداية أن يُحاول ردَّ الصليبيِّين إلى داخل الأسوار لكنَّه وجد أنَّ هذا متأخِّر، فقرَّر مشاركتهم بألفين ممَّن معه، وعبر النهر إلى الناحية الأخرى مناديًا باسم المسيح عليه السلام، والجميع يُردِّد وراءه، ثم قال كلمةً عجيبة: «الربُّ الذي بدأها هو الذي سيُنهيها على أكمل وجه»! ومِنْ ثَمَّ ارتطم بأتباعه بمقدِّمة الجيش العثماني. وخلافًا لكلِّ توقُّع، وبعيدًا عن أيِّ حساباتٍ منطقيَّة، أصابت الجيش العثماني حالةٌ عجيبةٌ من «التسمُّر»! كان من الواضح أنَّ الجنود العثمانيِّين لم يتوقَّعوا مطلقًا مثل هذا العمل، وكان من الواضح كذلك أنَّ الروح الحماسيَّة، والإقبال العجيب على الموت، كان مُمَيِّزًا لحركة الصليبيِّين، وهذا أصاب الجيش العثماني برعبٍ كبيرٍ جعلهم ينهارون إزاء هذه الهجمة المباغتة[47][48]. لم يقف الأمر عند حدوث هزيمةٍ للصف الأوَّل من الجيش العثماني، بل اخترق الصليبيُّون الصفَّ الثاني والثالث كذلك، وسرعان ما وصلوا إلى خيمة السلطان، ونزل السلطان الفاتح بنفسه إلى ساحة القتال، ولكن سرعان ما أُصيب في فخذه بسهمٍ فسقط مغشيًّا عليه[49]! أحاط خمسة آلاف إنكشاريٍّ بالسلطان وسحبوه فورًا خارج أرض المعركة[50].
أصابت الجيش العثماني حالةٌ من الهلع؛ وبدؤوا من فورهم في فرارٍ غير منظَّم، وحدثت حالةٌ من الفوضى جعلت العثمانيِّين يتركون كلَّ شيءٍ وراء ظهورهم، وكلَّ ما استطاعوا فعله أنَّهم قاموا بحرق المعدَّات والخيام، بل السفن؛ وذلك حتى لا يستفيد منها المجريُّون، ومع ذلك فقد غَنِم الجيش المجري كميَّاتٍ كبيرةً من المدافع والأسلحة والحيوانات والتموين[51].
استمرَّت المعركة خمس ساعاتٍ تقريبًا[52]، مع ملاحظة أنَّ الجيش النظامي المجري بقيادة هونيادي لم يشترك في المعركة إلَّا في أواخرها[53]، ولذلك ينسب كثيرٌ من المؤرِّخين النصر في هذه المعركة لچون كابسترانو ومن معه من الصليبيِّين[54].
تذكر بعض المصادر أنَّ قتلى الجيش العثماني في المعركة يُقدَّرون بأربعةٍ وعشرين ألف جندي[55][56][57]، ويرتفع بهم بعضهم إلى ثلاثين ألف قتيل[58]، وإن كان بابينجر يرى أنَّ هذه مبالغةٌ؛ لكون الصليبيِّين المشاركين في القتال الفعلي لا يزيدون عن خمسة آلاف جندي غير محترف[59]، وهو رأيٌ منطقي، ويُؤيِّد كلام بابينجر ما ذكره أحد النبلاء الچنويِّين اسمه چيمس برومونتوريو دي كامبيس James Promontorio de Campis، وكان يعمل في بلاط محمد الفاتح، بل كان مشاركًا في الحصار، من أنَّ قتلى العثمانيِّين في هذه المعركة كانوا ثلاثة عشر ألف جندي[60]، وهو رقمٌ أقرب إلى الصواب، وإن كانت الهزيمة كبيرةً على كلِّ الأحوال، وبكلِّ المقاييس! خاصَّةً أنَّ بعض المصادر تذكر أنَّ هناك أربعة آلاف أسيرٍ بالإضافة إلى هؤلاء القتلى[61]، وكذلك ما يقرب من مائة عربة محمَّلة بالجرحى[62]!
في مساء ذلك اليوم -22 يوليو 1456م- كان الجيش العثماني قد اختفى بكامله من حول أسوار بلجراد، منسحبًا بسرعةٍ إلى أدرنة[63]، وفي اليوم التالي مباشرةً قام چون كابسترانو وهونيادي بتسريح الجنود والصليبيِّين فورًا من المدينة وإعادتهم إلى بلادهم خوفًا من انتشار العدوى فيهم، وذلك لكثرة الجثث المسلمة في المدينة وما حولها[64]، وهذا يعني أنَّ المجريِّين كانوا يُدركون تمامًا أنَّه لا عودة للجيش العثماني، وإلَّا لَمَا تركوا المدينة هكذا بلا حماية.
ما الذي حدث؟!
ما المبرِّرات المنطقيَّة لهذه الكارثة؟! وكيف يُمكن تحليل الحدث حتى نخرج منه بفائدةٍ تُوازي هذه النتائج المرعبة؟!
للأسف فإنَّ المصادر الإسلاميَّة بشكلٍ عامٍّ، والتركيَّة بشكلٍ خاص، تتجاهل الحديث عن هذه المعركة، وكأنَّهم لا يُريدون الحديث بشكلٍ سلبيٍّ عن قائدٍ هو مِن أعظم قادة المسلمين في كلِّ تاريخهم؛ ولكن هذا في الواقع يُفقدنا الكثير من الفوائد التي يُمكن أن تنفعنا في قراءة واقعنا ومستقبلنا؛ فنحن نستفيد من تحليل الهزائم كما نستفيد من تحليل الانتصارات، ومَنْ هو هذا القائد الذي لم ينسحب قط في حياته العسكريَّة؟! لقد انسحب خالد بن الوليد في مؤتة، وانسحب صلاح الدين الأيوبي من عكا، بل انسحب رَسُولُ اللهِ ﷺ في أُحُد.
لقد قاد محمد الفاتح بنفسه خمسةً وعشرين حملةً عسكريَّةً على مدار الثلاثين سنة التي حكم فيها، هذا غير المعارك التي خرج فيها قبل ولايته أيَّام أبيه مراد الثاني، وهذا غير الجيوش التي سيَّرها شرقًا وغربًا ولم يخرج فيها؛ إنَّما خطَّط لها وتابع، فما الضيرُ أن تكون هناك عدَّة هزائم في سجلٍّ طويلٍ حافلٍ بالانتصارات؟
لقد كان من المهمِّ للمؤرِّخين المسلمين -سواءٌ من المعاصرين للحدث أم التالين له- أن يذكروا تفاصيل المعركة حتى نعرف أسباب الهزيمة فنتجنَّبها بعد ذلك، بدلًا من تركنا للمصادر الأوروبِّية وحدها نُحاول أن نفهم منها مجريات الأحداث.
إنَّ الأمر في الواقع صعبٌ على الاستيعاب!
يرى المؤرِّخ البولندي الألماني فريدريتش بري Friedrich Brie أنَّ الهزيمة جاءت نتيجة خوفٍ غير مبرَّرٍ من الجيش العثماني[65]، ويعلِّق المؤرخ الكندي تيد بيفيلد Tid Byfield على هذا الفرار بقوله: «اندهشت القوَّات العثمانيَّة لهذا الهجوم العجيب وغير المتوقَّع وتحيَّرت! وبدأت في الانسحاب، ثم يا للعجب! لقد ذُعِروا، وهربوا تاركين مدافعهم وأسلحتهم»[66]! أمَّا المؤرِّخ الإنجليزي نورمان هاوسلي Norman Housley فقد أراح نفسه من هذه التحليلات وأرجع الأمر ببساطة إلى «الحظ»[67]! على الرغم من أنَّه يصف هذا النصر في كتابٍ آخر بأنَّه أعظم انتصارات النصارى على الأتراك في القرن الخامس عشر[68]!
أمَّا التحليل الإسلامي لهذا الحدث فمختلف!
إنَّ خوف الجيش العثماني مبرَّرٌ، ولا عجب في فراره، وليس للحظِّ دورٌ في نصر النصارى! والسرُّ في ذلك يرجع إلى عدَّة أمور:
أمَّا الأمر الأوَّل فهو الغرور والزهو، والدخول إلى القتال بشعور: «لن نُغْلَب اليوم من قِلَّة»، فهذا الصدام يأتي بعد انتصار القسطنطينية المهيب، ولا شَكَّ أنَّ أسوار بلجراد أضعف كثيرًا من أسوار القسطنطينية، فشعر الجيش أنَّ احتمال هزيمته، وهو بهذا العدد الكبير، والعُدَّة الفاخرة، بعيدٌ للغاية، فكان الإعجاب بالكثرة التي لم تُغنِ عنهم شيئًا، وكما جاءت حنين بعد فتح مكة، جاءت بلجراد بعد فتح القسطنطينية. ولم يكن هذا الشعور -في رأيي- عند أفراد الجيش فقط، بل أحسب أنَّه كان موجودًا عند الفاتح نفسه! وقد ظهر هذا الشعور في ثقته الزائدة بأنَّ الفتح سيتمُّ في أسبوعين فقط، وأنَّهم سيفتحون شمال صربيا والمجر في غضون شهرٍ واحد!
وأمَّا الأمر الثاني فهو حبُّ الدنيا، وتغيُّر النوايا من الرغبة في الفتح إعلاءً لكلمة الله، وانتصارًا للدين، إلى حبٍّ للغنيمة، ورغبةٍ في التوسُّع والامتلاك. نعم نحن لا نرى النوايا، لكنَّنا نرى آثارها على الأعمال. وقد ذكرت بعض المصادر أنَّه بعد هذه الموقعة بفترةٍ أراد الفاتح أن يُعيد الكرَّة على بلجراد فاشترط عليه قادة الجيش أن يأخذوا الأرض المغنومة لصالحهم في حال الفتح[69]، ممَّا يؤكَّد رغبتهم في القتال من أجل الدنيا لا الآخرة. قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165].
لقد تعجَّب المؤرِّخون الأوروبِّيُّون من «تسمُّر» الجيش العثماني الكبير أمام الأعداد القليلة من الفلَّاحين غير الاحترافيِّين، لكن الأعجب هو جرأة هؤلاء الفلَّاحين البسطاء على جيشٍ عملاقٍ حقَّق انتصارًا قريبًا على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ومن قبلها حقَّق انتصارات كبيرة على الجيوش الأوروبِّيَّة في كوسوڤو، ونيكوبوليس، وڤارنا، وغيرها من المواقع! إنَّ هذه الجرأة التي رأيناها في أداء الفلاحين النصارى، والوهن الذي رأيناه في قلوب العثمانيِّين في هذه المعركة لَيُفَسَّر بالحديث النبويِّ الذي رواه ثَوْبَان ُرضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[70].
إنَّ ما رأيناه في موقعة بلجراد هو «نزع المهابة» من صدور الأعداء القلَّة، و«الوهن» في صدور العثمانيِّين الكثرة، فكانت الهزيمةُ، وكان الانسحاب.
هذا هو الذي يُفَسِّر حالة «التسمُّر» التي كان عليها الجيش العثماني. وهذا الذي يُفسِّر الانسحاب الكامل للجيش دون تفكيرٍ في إعادة الكَرَّة، ولم يكن قرار الانسحاب إلى نقطةٍ تسمح بالرجوع؛ ولكنَّه إلى أدرنة، على بُعْد أكثر من ستمائة كيلو متر من الموقعة!
أمَّا الأمر الثالث الذي يُفَسِّر هذا الانكسار الحاد في الجيش العثماني فهو الأخطاء العسكريَّة الفادحة أثناء هذا الحصار، ممَّا أفقد الجيش ثقته في نفسه، وفي قيادته. فالهزيمة البحريَّة يوم 14 يوليو كانت تُنبئ عن ضعفٍ في التخطيط والإدارة، والهزيمة البرِّيَّة يوم 21 يوليو، وذبح سبعمائةٍ من الإنكشاريَّة المتميِّزين كانت بسبب ضعف المخابرات العثمانيَّة التي لم تُدرك أنَّ الجيش المجري ما زال بالمدينة ولم يتركها خاوية، كما لم يكن هناك الدعم الكافي للقوَّات التي اخترقت الأسوار، فوقعوا جميعًا في الكمين المجري، وكانت الكارثة. هذه الأخطاء المركَّبة ومثيلاتها جعلت الجنود لا يقفون على أرضٍ صلبة، فكان الفرار عند أوَّل تهديد.
والأمر الرابع والأخير في هذا التحليل هو الحماسة الدينيَّة النصرانيَّة عند الصليبيِّين في هذا الصدام. إنَّنا لا يُمكن أن نغفل الدور الكبير الذي قام به چون كابسترانو في شحن معنويَّات الصليبيِّين ليُواجهوا الجيش العثماني الكبير دون وجل. لقد كان يقول لهم: «لا تخشوا الأتراك. إنَّنا سنأكلهم كما نأكل الخبز»[71]! لذلك يُرْجِع كثيرٌ من المؤرِّخين النصر إليه وإلى شخصيَّته الكاريزميَّة[72]، كما لا يُمكن أن نغفل الدور القيادي الكبير الذي قام به هونيادي؛ فهو الذي دمَّر البحريَّة العثمانيَّة، وهو الذي اخترق الحصار ودخل المدينة المحاصَرَة، وهو الذي أعدَّ الكمين الذي هلك فيه سبعمائة من العثمانيِّين، كما أنَّه اشترك في القتال بعدما عجز عن منع الصليبيِّين من الخروج من الأسوار، فضلًا عن جهده في الإعداد قبل المعركة بشهور، ومن هذا المنطلق يرى مؤرِّخون آخرون أنَّه السبب الرئيس في النصر وليس چون كابسترانو، ويُؤيِّد هذه الرؤية المؤرِّخون الأتراك القدامى الذين عاصروا الحدث، كما ينقل المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton[73]. كما لا يُمكن أن نغفل بالطبع هذه الجموع المتطوِّعة التي جاءت -كما يقول سيتون- تنتظر معجزة، ولن يُمكن إحباطها[74]! والحقُّ أنَّ انتصار المجر في هذه الموقعة لا ينبغي أن يُنْسَب إلى عنصرٍ واحدٍ من أفرادهم؛ إنَّما هو مجموع القيادة العسكريَّة لهونيادي، مع القيادة الدينيَّة لچون كابسترانو، مع الإقبال والشجاعة الكبرى عند بسطاء الصليبيِّين.
لقد كان لهذه الموقعة من الآثار والتَّبعات ما يحتاج منَّا إلى وقفةٍ للتحليل، مع أنَّ الجيش العثماني استعاد عافيته في فترةٍ وجيزة؛ ولكنَّ الوقوف مع الحدث وتحليله يُعطينا فوائد كبيرةً لفهم هذه المرحلة التاريخيَّة؛ بل لفهم الخطوات التالية التي فعلها الفاتح في حياته.
أوَّلًا: أدرك الفاتح أنَّه لا يُمكنه حرب دولةٍ قويَّةٍ كالمجر على أرضيَّةٍ غير ثابتة؛ فقتال المجر كان على أطراف صربيا الشماليَّة، ممَّا يعني أنَّ الفاتح اخترق صربيا كلَّها ليُقاتل المجر في أرضيَّةٍ لا يملكها ولا يعرفها معرفةً جيِّدة، والأهمُّ من ذلك أنَّه ليست له قاعدةٌ قويَّةٌ يرجع إليها في هذه المنطقة برمَّتها، ومن هنا فإنَّه كان لزامًا على الفاتح إذا كان يتوقَّع عداءً مستقبليًّا من المجر، وهذا لا بُدَّ أن يحدث، أن يُثبِّت أقدامه في منطقة صربيا، بل في منطقة البوسنة غرب صربيا كذلك، وهي النصيحة التي كان يُوجِّهها له قرة چه قبل الحصار، لتُصبح له قاعدةٌ قويَّةٌ يستطيع أن يُحرِّك منها الجيش، وأن يعود إليها في حالة الانسحاب، وأن يبثَّ منها العيونَ والجواسيسَ طوال العام للبلاد القريبة، ومنها المجر، وليُؤسِّس فيها القلاع والحصون التي تحمي وجوده. عند هذه الحالة فقط يستطيع أن يُواجه عدوًّا في قوَّة المجر، وهذا الذي أدركه محمد الفاتح سيدفعه إلى السعي لضمِّ صربيا والبوسنة إلى الدولة العثمانيَّة بشكلٍ قوي.
ثانيًا: قوَّة المجر قوَّةٌ ضخمةٌ بالقياس إلى قوَّة الدولة العثمانيَّة في هذه المرحلة التاريخيَّة، وهي قوَّةٌ كاثوليكيَّة صِرفة، وهذا يُعطيها بعدًا وعمقًا في الوسط والغرب الأوروبي، ممَّا يزيد من خطورتها وسطوتها، ولقد تركت موقعةُ بلجراد ظلالها على فكر الفاتح واستراتيجيَّته، فقرَّر عدم تجربة الصدام مع المجر إلَّا إذا تغيَّرت الظروف لصالحه، أو اضطرَّ إلى ذلك اضطرارًا، وطوال عهد الفاتح التالي لموقعة بلجراد -أي لمدَّة خمسٍ وعشرين سنةً تاليةً للمعركة- لم يتعمَّد الفاتح غزوًا للمجر قط، بل لم يسعَ للتوسُّع في اتِّجاه الشمال ليتجنَّب أيَّ صدامٍ مع المجر، ويُمكن القول: إنَّ موقعة بلجراد قد أمَّنت المجر ووسط أوروبا لمدَّة سبعين سنةً كاملة[75]، ولن تُغْزَى بشكلٍ رسميٍّ ممنهجٍ إلَّا في عام 1526م في عهد سليمان القَانوني[76].
إنَّني أرى في تعامل الفاتح رحمه الله مع ملفِّ المجر بهذه الواقعيَّة أمرًا رائعًا يستحقُّ التقدير؛ فليس عيبًا أن يعرف القائد حجم دولته، فلا يُورِّطها في مشاكل كبرى لا طاقة لها بها، بل عليه أن يتجنَّب هذه المشكلات ولو كان فيها اتِّهامًا له بالضعف أو الخوف؛ فإنَّ هذا في الواقع ليس ضعفًا ولا خوفًا؛ إنَّما هو حكمةٌ وتُؤَدَة، وما لم نستطع فعله في هذه الأعوام والظروف قد نستطيع فعله في أعوامٍ قادمة، أو ظروفٍ أخرى، ولقد فسَّر المؤرِّخ المجري جابور أجوستون Gábor Ágoston امتناع الدولة العثمانيَّة عن حرب المجر لهذه المدَّة الطويلة بثلاثة أمور؛ العامل النفسي نتيجة الانسحاب في بلجراد، والقوَّة العسكريَّة المتزايدة للمجر في عهد ملكها الجديد ماتياس Matthias، وانشغال الدولة العثمانيَّة في قضايا أخرى كثيرة في الشرق بعيدًا عن ساحات المجر[77]، وهي أسبابٌ منطقيَّة، وإن كنتُ أعتقد أنَّ دور العامل النفسي ليس كبيرًا، أو كان محدودًا بفترةٍ قصيرة؛ لأنَّنا وجدنا في سيرة الفاتح بعد ذلك صداماتٍ قويَّةً مع أعداءٍ كثيرين، ولم نشهد منه خوفًا أو تردُّدًا، فضلًا عن أنَّنا ذكرنا منذ قليل أنَّه كان يُفكِّر في إعادة الكَرَّة على بلجراد لولا أنَّه لم يجد حماسةً من الجنود تدفعه إلى إكمال المسيرة.
ثالثًا: حدود الدولة العثمانيَّة مع المجر ستكون خَطِرَةً للغاية، وأخطرها هي الحدود الشماليَّة الشرقيَّة، والمتمثِّلة في الإفلاق والبغدان، وحدودها في الشمال الغربي مع صربيا، وإذا كنَّا قد ذكرنا قبل ذلك أنَّ امتلاك صربيا والبوسنة مهمٌّ جدًّا لتكوين قاعدةٍ صلبةٍ في مواجهة المجر في هذه الناحية، فإنَّ الاهتمام بالإفلاق والبغدان لا يقلُّ أهميَّةً عن صربيا والبوسنة، خاصَّةً أنَّ الإفلاق والبغدان يفصلان المجر عن البحر الأسود؛ ومِنْ ثَمَّ فقد تسعى المجر لإحداث القلاقل بهاتين الولايتين، سواءٌ عن طريق الاحتلال العسكري المباشر، أم العلاقات الدبلوماسيَّة مع قادتها، أم على الأقلِّ بإحداث الفتن المستمرَّة هناك، مع العلم أنَّ هذه الولايات كانت ولاياتٍ تابعةً للدولة العثمانيَّة، وليست محكومةً بشكلٍ مباشر؛ فليس فيها والٍ عثمانيٌّ ولا جيشٌ ولا قلاع، وستُصبح السيطرة العثمانية عليها أمرًا صعبًا يحتاج إلى جهد، وهذا لا بُدَّ أن يشغل ذهن الفاتح في المرحلة القادمة.
رابعًا: إذا كانت المجر بهذه القوَّة، وإذا كان التخاذل الباباوي وقت فتح القسطنطينية قد أدَّى إلى سقوطها في أيدي العثمانيِّين، وإذا كان البابا الجديد يُهيِّج شعوب أوروبا بهذه الصورة لحرب العثمانيِّين، فإنَّه من المتوقَّع أن تتحرَّك قوَّتا المجر والبابا لنجدة الجيوب البيزنطيَّة الموجودة داخل الدولة العثمانيَّة، وأعني بهما منطقتين رئيستين: الأولى هي مملكة طرابزون في الأناضول، والثانية هي منطقة المورة في اليونان؛ فلا يُستبعد أبدًا أن يستثمر قادة المجر والبابا انتصار بلجراد في تحريك الجيش لدفع بقايا الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة إلى النهوض من جديد، وتدارُك ما فات عند سقوط القسطنطينية، فهذا كلُّه دَفَع الفاتح إلى محاولة إغلاق ملفِّ الدولة البيزنطيَّة سريعًا قبل أن تنتبه المجر وأوروبا إلى هذا الأمر، وهذا سيرسم ملامح تحرُّكات الفاتح في المرحلة القادمة.
خامسًا: ما حدث من المجر في بلجراد يُمكن أن يحدث مع البندقية في معارك مماثلة، لذلك لا بُدَّ من الانتباه لهذا العدوِّ بسرعة، وسيكون ذلك بتأمين نقاط الحدود مع هذه الجمهوريَّة القويَّة، وهذه النقاط هي المورة اليونانيَّة، والبوسنة؛ فهذه نقاطُ التَّماسِّ مع جمهوريَّة البندقية، ولا بُدَّ من وجودٍ عثمانيٍّ قويٍّ بها حتى لا يتكرَّر مع البندقية ما حدث في بلجراد مع المجر، كما ينبغي أن يكون هذا الوجود العثمانيُّ سريعًا قبل أن يتمَّ اتفاقٌ خَطِر بين المجر والبندقية، خاصَّةً أنَّهما كاثوليكيَّتان، ولو توحَّدا معًا في حرب الدولة العثمانيَّة -وهذا متوقَّعٌ في ظلِّ وجود البابا النشط كاليكستوس الثالث- فإنَّ وحدتهما ستُمثِّل خطرًا حقيقيًّا على الدولة.
هذه النقاط التي ذكرناها رسمت ملامح المرحلة القادمة المباشرة في حياة الفاتح، التي يُمكن أن نُلخِّصها في الخطوات التالية:
1. أهميَّة الاستقرار في صربيا والبوسنة.
2. الانتهاء من الجيوب البيزنطيَّة في المورة وطرابزون.
3. إحكام السيطرة على الإفلاق والبغدان.
4. الانتباه إلى طموحات البندقية، ومحاولة السيطرة على الجزر البحريَّة في بحر إيجة التي تُمثِّل خطرًا على الدولة العثمانيَّة.
كلُّ هذه التحليلات والرؤى ومنهج عمل الفاتح في السنوات التالية أخذناها من هزيمة بلجراد، ولو تغافلنا عن هذه الهزيمة لَمَا أمكننا أن نحصل على هذه الفوائد، علمًا بأنَّ حجم الموقعة عند الغرب أكبر بكثيرٍ من تصوُّراتنا، ويكفي أن نلحظ هذه المشاهدات لنُدرك أهميَّة هذا الصدام الذي يجهله الكثير من المسلمين:
1- وصل خبر انتصار المجر على العثمانيِّين إلى روما في 6 أغسطس 1456م[78]، بعد الموقعة بأسبوعين تقريبًا، ومن فوره قام البابا ليخطب في الجموع النصرانيَّة يُبشِّرهم بالنصر، واستمرَّت خطبته على غير المعتاد ثلاث ساعات ونصف كاملة! من الرابعة عصرًا إلى السابعة والنصف مساءً، وذكر في خطبته أنَّ هونيادي من أفضل النصارى الذين وُلِدوا في آخر ثلاثة قرون[79]! فهذا يُعطينا فكرةً عن مدى تقدير البابا والنصارى لهذه المعركة.
2- أنعم البابا على هونيادي بلقب «درع النصرانيَّة» «Shield of Christendom»[80]، أو «Athlete of Christendom»[81]، وهو لقبٌ لا يُعطى إلَّا قليلًا، ولا بُدَّ لمن يناله أن يكون قد قدَّم للنصرانيَّة خدمةً استثنائيَّةً لا تتكرَّر كثيرًا.
3- لم يكتفِ البابا كاليكستوس الثالث بإعطاء الشرف لهونيادي، بل أعطاه للمجر كلِّها، عندما أطلق على الدولة هي الأخرى لقب درع النصرانيَّة «Shield of Christianity»[82]؛ على اعتبار أنَّها أوَّل دولةٍ كاثوليكيَّةٍ على حدود الدولة العثمانيَّة، وأنَّها الدولة الوحيدة منذ نشأة الدولة العثمانيَّة التي تُحقَّق نصرًا حاسمًا عليها.
4- مرَّ بنا أنَّ البابا أمر الكنائس أن تدقَّ عند الظهيرة (Noon Bell) لتُذكِّر النصارى بالدعاء لجيوشهم في بلجراد. الآن يأمر البابا أن تستمرَّ هذه العادة في كلِّ الكنائس الأوروبِّيَّة كنوعٍ من الاحتفال بهذا النصر الكبير[83]، والعجيب أنَّ هذه العادة ما زالت مستمرَّةً إلى يومنا هذا في كنائس أوروبا الكاثوليكيَّة، وبعض الكنائس القديمة للبروتستانت[84][85]، ممَّا يكشف عن مدى عمق هذا النصر في تاريخ أوروبا.
5- لم يقف مجد هونيادي عند زمانه فقط؛ بل عَدَّه المجريُّون بطلًا قوميًّا تاريخيًّا، حتى قال المؤرِّخ الإنجليزي وليام واو William Waugh: «يَعُدُّ معظم المجريِّين هونيادي أعظم أبطالهم التاريخيِّين على الإطلاق»[86]! وهو يُعَدُّ بطلًا قوميًّا في رومانيا كذلك لأنَّه من أصولٍ رومانيَّة[87]. بل قال البابا بيوس الثاني Pius II -وهو البابا الذي سيأتي بعد كاليكستوس الثالث- كلمةً عجيبةً في حقِّه: «لقد زاد هونيادي من مجد رومانيا لأنَّه وُلِدَ بينهم»[88]!
6- بعد خروج المجر من الشيوعيَّة، وبدايةً من عام 2011م، وبعد السماح بالاحتفالات الدينيَّة، عُدَّ يوم 22 يوليو -ذكرى النصر في بلجراد- يومًا تذكاريًّا تحتفل به الدولة والشعب، وهو يُعَدُّ من جملة الأعياد الدينيَّة النصرانيَّة التي ينبغي ألَّا تُمحَى من ذاكرة الأمَّة[89].
7- كان من الواضح أنَّ النصر الكبير الذي حقَّقه الجيش المجري على العثمانيِّين قد أقنع البابا بأنَّ مصاب الدولة العثمانيَّة كبيرٌ إلى الدرجة التي ستسمح للأسطول البابوي أن يُحقِّق نصرًا هو الآخر، ولذلك، وعلى الرغم من عدم اكتمال استعدادات الأسطول، وعلى الرغم من تباطؤ أمراء أوروبا في دعمه، فإنَّ البابا أصدر أوامره في 6 أغسطس 1456م -أي في اليوم نفسه الذي جاءته فيه أخبار نصر بلجراد- بتحرُّك الأسطول من نابولي صوب الجزر العثمانيَّة في بحر إيجة[90]، وهذا يكشف بوضوحٍ عن أنَّ أحداث هزيمة بلجراد حقيقيَّة، وليس فيها تضخيمٌ ولا مبالغة، وإلَّا لَمَا ترك البابا أسطوله يتحرَّك صوب الدولة العثمانيَّة.
هذه هي قصَّة حصار بلجراد وتبعاتها، وهي حلقةٌ طبيعيَّةٌ من حلقات الصدام بين المسلمين وأعدائهم؛ فالمألوف أنَّ النصر يأتي في أيَّام، وتأتي الهزيمة في أخرى، وهذه هي سُنَّة الله في أرضه. قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، وإذا كانت هذه الحلقة على غير مراد الفاتح ودولته، فإنَّ الحلقات القادمة كانت له، وبشكلٍ لافت![91].
[1] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., p. 139.
[2] Rogers Clifford J The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2010., vol. 1, p. 95.
[3] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960., vol 35, no. 418.
[4] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 174.
[5] Byfield Ted The Christians Their First Two Thousand Years [Book]. - project, canda : Christan History, 2010, vol. 8, p. 135.
[6] Stone Elizabeth History of the Ottoman Empire in Europe [Book]. - London, UK : W. Collins, 1877, p. 92.
[7] Sugar Peter F. A History of Hungary [Book]. - Bloomington, IN, USA : Indiana University Press, 1994, p. 69.
[8] Setton, 1976, vol. 2, p. 177.
[9] Tracy James D Balkan Wars: Habsburg Croatia, Ottoman Bosnia, and Venetian Dalmatia, 1499-1617 [Book]. - Lanham, MD, USA : Rowman & Littlefield, 2016, p. 31.
[10] Setton, 1976, vol. 2, p. 176.
[11] Stone, 1877, p. 92.
[12] Ágoston Gábor Guns for the Sultan [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2005, p. 48.
[13] Setton, 1976, vol. 2, p. 177.
[14] Rogers, 2010, vol. 1, p. 45.
[15] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 61.
[16] Byfield Ted The Christians Their First Two Thousand Years [Book]. - project, canda : Christan History, 2010, vol. 8, p. 137.
[17] Setton, 1976, vol. 2, p. 173.
[18] Sugar, 1994, p. 69.
[19] Setton, 1976, vol. 2, p. 177.
[20] Byfield, 2010, vol. 8, p. 135.
[21] Babinger, 1978, p. 139.
[22] Pálosfalvi Tamás V. László [Book Section] // Magyarország vegyes házi királyai [The Kings of Various Dynasties of Hungary] (in Hungarian) / book auth. Kristó Gyula. - [s.l.] : Szukits Könyvkiadó, 2002, p. 198.
[23] Setton, 1976, vol. 2, pp. 174-175.
[24] Lázár István Transylvania: A Short History [Book] / trans. DeKornfeld Thomas J.. - Budapest, Hungary : corvira, 1997, p.92.
[25] Dyer Thomas Henry The history of modern Europe: from the fall of Constantinople in 1453, to the war in the Crimea in 1857 [Book]. - London, UK : J. Murray, 1861, vol, 1, p. 85.
[26] Hemans Charles Isidore A History of Mediaeval Christianity and Sacred Art in Italy [Book]. - London, UK : Williams & Norgate, 1872, vol. 2, p. 509.
[27] Setton, 1976, vol. 2, p. 174.
[28] Setton, 1976, vol. 2, p. 176.
[29] İnalcık, 1960, vol 35, no. 3, p. 418
[30] Rogers, 2010, vol. 1, p. 45.
[31] Babinger, 1978, p. 139.
[32] Byfield, 2010, vol. 8, p. 135.
[33] Sisa Stephen The Spirit of Hungary [Book]. - Silverthorne, Co, USA : Vista Books, 1990, p. 53.
[34] Rogers, 2010, vol. 1, p. 45.
[35] Byfield, 2010, vol. 8, p. 135.
[36] Setton, 1976, vol. 2, p. 179.
[37] Byfield, 2010, vol. 8, p. 135.
[38] Setton, 1976, vol. 2, p. 177.
[39] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape, 1977, p. 126.
[40] Setton, 1976, vol. 2, p. 178.
[41] Byfield, 2010, vol. 8, p. 136.
[42] Setton, 1976, vol. 2, p. 179.
[43] Byfield, 2010, vol. 8, p. 136.
[44] Freely, 2009, p. 61.
[45] Setton, 1976, vol. 2, p. 177.
[46] Byfield, 2010, vol. 8, p. 136.
[47] Setton, 1976, vol. 2, pp. 180-181.
[48] Byfield, 2010, vol. 8, pp. 136-137.
[49] Freely, 2009, p. 61.
[50] Mikaberidze Alexander Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia [Book]. - California, USA : ABC-CLIO, 2011, vol. 1, p. 209.
[51] Setton, 1976, vol. 2, p. 181.
[52] Freely, 2009, p. 61.
[53] Setton, 1976, vol. 2, p. 181.
[54] Housley Norman Crusading and the ottoman threat [Book]. - Oxford, UK : Oxford, university press, 2013, p. 112.
[55] Stone, 1877, p. 93.
[56] Setton, 1976, vol. 2, p. 183.
[57] Menzies Sutherland Turkey Old and New: Historical, Geographical and Statistical [Book]. - London, UK : W. H. Allen, 1883, p. 88.
[58] Rogers, 2010, vol. 1, p. 45.
[59] Babinger, 1978, p. 142.
[60] Housley Norman The Later Crusades 1274-1580 [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 1992, p. 104.
[61] Bulei Ion A Short History of Romania [Book]. - Bucharest, Romania : Meronia Publishers,, 2005, p. 45.
[62] Menzies, 1883, p. 88.
[63] Byfield, 2010, vol. 8, p. 137.
[64] Housley, 2013, p. 113.
[65] Brie, 2012, p. 524.
[66] Byfield, 2010, vol. 8, p. 137.
[67] Housley Norman Crusading in the Fifteenth Century: Message and Impact [Book]. - London, UK : Palgrave macmillan, 2004, p. 115.
[68] Housley, 1992, p. 104.
[69] Kafadar Cemal Between Two Worlds: The Construction of the Ottoman State [Book]. - Los Angeles, USA : University of California Press, 1996, p. 147.
[70] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام (4297)، وأحمد (22450). وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وصحَّحه الألباني، 1995م (958).
[71] Setton, 1976, vol. 2, p. 180.
[72] Housley, 2013, p. 112.
[73] Setton Kenneth Meyer, Hazard Harry W. and Zacour Norman P. A History of the Crusades [Book] / ed. Hazard Harry w. and Zacour Norman P.. - Madison, WI, USA : The University of Wisconsin Press, 1975, vol 4, pp. 323-324.
[74] Setton, 1976, vol. 2, p. 180.
[75] Kerny, 2008, pp. 79-90.
[76] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية [كتاب] / المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 211.
[77]Ágoston Gábor and Masters Bruce Alan Encyclopedia of the Ottoman Empire [Book]. - New York, USA : Infobase Publishing., 2010, p. 256.
[78] Freely, 2009, p. 61.
[79] Setton, 1976, vol. 2, p. 183.
[80] Munoz Jesus Holy Dracula… The Christian Knight [Book]. - boomington, IN, USA : Author House,, 2013, p. 156.
[81] Babinger, 1978, p. 53.
[82] Sisa, 1990, p. 52.
[83] Housley, 2004, p. 86.
[84] Esbenshade Richard S. Hungary [Book]. - New York, USA : marshall Cavendish Benchmark, 2004, p. 21.
[85] Kaczeus Steven L. Memento Homo [Book]. - Bloomington, IN, USA : xlibris Corporation, 2011, pp. 64-65.
[86] Waugh William T. A History of Europe: From 1378 to 1494 [Book]. - New York, USA : Routledge, 2016, p. 421.
[87] Boia Lucian History and Myth in Romanian Consciousness [Book]. - Budapest, Hungary : Central European University (CEU) Press, 2001, pp. 135-136.
[88] Giurescu Constantin The Making of the Romanian Unitary State [Book]. - Bucharest, Romania : Meridiane Publishing House, 1975, p. 60.
[89] Carota Father July 22, 1456, Another Miraculous Muslim Defeat At Belgrade Hungary [Online] // Traditional Catholic Priest, 2014.
[90] Freely, 2009, p. 62.
[91] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 334- 363.
التعليقات
إرسال تعليقك