ملخص المقال
لا تستطيع أن تعرف هل هو من أصحاب مدرسة الحديث أم مدرسة الرأي لأنه جمع هذا وذاك، وقد يسَّر الله له الأسباب التي قادت إلى ذلك بتوفيق عجيب.
الشافعي نسيج وحده:
لا تستطيع أن تعرف هل هو من أصحاب مدرسة الحديث أم مدرسة الرأي لأنه جمع هذا وذاك، وقد يسَّر الله له الأسباب التي قادت إلى ذلك بتوفيق عجيب.
انتقال الشافعي المدينة
انتقل الشافعي إلى المدينة ليتعلم على يد مالك: عن الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي، يقول: خرجت من مكة، فلزمت هُذَيْلا في البادية، أتعلم كلامها وآخذ بِلُغَتها، وكانت أفصح العرب، فأقمت معهم مدة أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما أن رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر أيام الناس، فمر بي رجل من الزُّبيريّين، فقال لي: يا أبا عبد الله، عَزَّ عليَّ ألا تكون في العلم والفقه، هذه الفصاحة والبلاغة. قلت: من بقي ممن يُقْصَدُ؟ فقال: مالك بن أنس، سيد المسلمين. قال: فوقع ذلك في قلبي، وعمدت إلى الموُطّأ فاسْتَعْرته من رجل بمكة وحفظته، ثم دخلت على والي مكة، فأخذت كتابه إلى والي المدينة، وإلى مالك بن أنس. فقدمت المدينة، فبلغت الكتاب، فلما قرأ والي المدينة الكتابَ، قال: يا بني، إن مشي من جَوْفِ المدينة إلى جوف مكة حافيًا راجلًا أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك، فإني لست أرى الذلَّ حتى أقفَ على بابه. فقلت: إن رأى الأمير أن يوجه إليه ليحضر، فقال: هيهات، ليت أني إن ركبت أنا ومن معي وأصابنا ترابُ العقيق يَقْضِي حاجتنا. فواعدته العَصْر، وقصدنا، فتقدّم رجلٌ وقَرَعَ الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولي لمولاك إنَّنِي بالباب. فدخلت فأبطأت ثم خرجت، فقالت: إنّ مولاي يقول: إن كانت مسألة فارفعها إليّ في رقعة حتى يَخْرُجَ إليكَ الجوابُ، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة في مُهمًّ. فدخلت، ثم خرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، فإذا بمالكٍ رجل شيخ طُوَالٌ، قد خرج وعليه المهابة وهو مُتَطَيْلِسٌ. فدفع إليه الوالي الكتاب، فبلغ إلى قوله: إنّ هذا رجل شريفٌ مِنْ أمْرِه وحاله، فتحدِّثه وتفعل وتصنع. فرمى بالكتاب من يده، وقال: يا سبحان الله، قد صار عِلْمُ رسول الله ﷺ، يؤخذ بالوسائل! قال: فرأيت الوالي -وهو يَهَابُه أن يُكلمَه- فَتَقَدَّمت إليه، فقلت: أصلحك الله، إني رجل مُطَّلِبيّ، من حالي وقِصَّتي. فلما أن سَمِعَ كلامي نظر إليَّ ساعة، وكانت لمالك فِراسة، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد. قال: يا محمد، اتَّقِ الله، واجْتَنِبِ المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن من الشأن. فقلت: نعم وكرامة. فقال: إذَا كان غدٌ تَجِيء ويجيءُ من يقرأ لك الموطأ. فقلت: إني أقرأ ظاهرًا. قال: فغدوت إليه وابتدأت، فَكُلَّمَا تهيبت مالكًا وأردتُ أن أقطع، أعْجَبَه حُسْنُ قراءتي وإعْرَابِي، يقول: يا فَتى زِدْ. حتى قرأته عليه في أيام يسيرة. ثم أقمت بالمدينة إلى أن تَوفَى مالِكُ بن أنس.
لو كان عمر الشافعي 19 عامًا، فهو قد جاء في عام 169 ه، وقد مات مالك في عام 179 ه، فيكون الشافعي قد قضى عشر سنوات مع مالك، ومع ذلك لا يُعَدُّ من أصحاب مالك لأنه لم ينشر مذهبه؛ إنما كوَّن مذهبه الخاص به، ولكنه استفاد منه الحديث النبوي، فصار من كبار المحدِّثين، ومن مدرسة الحديث حتى هذه اللحظة.
عودة الشافعي إلى مكة ثم إلى اليمن
بعد موت مالك في سنة 179هـ عاد الشافعي إلى مكة ثم إلى اليمن وكان عمره 29 سنة، قال الشافعي: ثم قدم والٍ على اليمن، فكلمه بعضُ القُرشيين أَنْ أَصْحبه، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتَحَمَّلُ به، فَرَهَنَتْ دارًا بستة عشر دينارًا، وأَعْطتْني، فتحمَّلْتُ بها معه، فلما قدمنا اليمن استعملني على عمل، فحُمدت فيه، فزادَ عَمِلي. قال الشافعي: ثم قدمت بعد ذلك «نَجْران» وبها بَنُو الحارث وموالي ثَقِيف. وكان الوالي إذا أتاهم صَانَعُوه (رشوه)، فقدِمتُ فأرادوني على نحو ذلك، فَلَمْ يَجِدوا عندي.
قال الشافعي: ثم خرجت إلى اليمن فارتفع لي بها الشأن، وكان بها وال من قبل الرشيد وكان ظلوما غشوما وكنت ربما آخذ على يديه وأمنعه من الظلم. قال: وكان باليمن تسعة من العلوية قد تحركوا فكتب الوالي إلى الخليفة يقول إن ناسا من العلوية قد تحركوا وإني أخاف أن يخرجوا وإن هاهنا رجلًا من ولد شافع المطلبيّ لا أمر لي معه ولا نهي يعمَل بلسانه ما لا يعمل المقاتل بسيفه.
انتقال الشافعي إلى بغداد
انتقل الشافعي إلى بغداد للتحقيق عام 184ه بين يدي الرشيد، وكان عمره 34 سنة، قال مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ للرشيد: له من الْعلم مَحل كَبِيرٌ وَلَيْسَ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ، وقد مكث سنتين مع محمد بن الحسن.
محنة صنعت الأسطورة؛ إذ أن تطبيق منهج أبي حنيفة على حديث مالك كان ضربًا من الخيال حقَّقه الشافعي!
قال ابن حجر العسقلاني: انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه ولازمه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حمل جمل، ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتُهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار.
عودة الشافعي إلى مكة
عاد الإمام الشافعي إلى مكة في عام 186هـ، وكان عمره 36 سنة، ودرس في الحرم، وكان يدرس فيه سفيان بن عيينة، ومكث في مكة 9 سنوات.
كلام أحمد بن حنبل عن الشافعي
عن مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَزَّارَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: "حَجَجْتُ مَعَ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَنَزَلْتُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مَعَهُ، أَوْ فِي دَارٍ يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ بَاكِرًا، وَخَرَجْتُ أَنَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ دُرْتُ الْمَسْجِدَ، فَجِئْتُ إِلَى مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَكُنْتُ أَدُورُ مَجْلِسًا مَجْلِسًا؛ طَلَبًا لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، حَتَّى وَجَدْتُ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، عِنْدَ شَابٍّ أَعْرَابِيٍّ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مَصْبُوغَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ جُمَّةٌ، فَزَاحَمْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تَرَكْتَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَزِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ، وَالتَّابِعِينَ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ؟! فَقَالَ لِي: اسْكُتْ، فَإِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ تَجِدُهُ بِنُزُولٍ، لا يَضُرُّكَ فِي دِينِكَ، وَلا فِي عَقْلِكَ أَوْ فِي فَهْمِكَ، وَإِنْ فَاتَكَ أَمْرُ هَذَا الْفَتَى، أَخَافُ أَنْ لا تَجِدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مِنْ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيِّ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ".
أحمد بن حنبل يأتي بأصحابه إلى الشافعي:
قال إسحاق بن راهويه: كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي: يا أبا يعقوب قم حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه، فقال له: يا أبا عبد الله هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحّب بي وحيّاني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم وأعجبه حفظي، قال: فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت له: يا سبحان الله أقمنا من عند رجل يقول «حدثنا الزهري» فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريبا منه، فأتيت بنا إلى هذا الشاب. فقال لي: يا أبا يعقوب اقتبس من الرجل فانه ما رأت عيناي مثله.
لم يكن الشافعي يشبه غيره في العلم، وكان كلامه فريدًا يعرفه أهل العلم ويميِّزونه:
عن الحسن بن محمد الزعفراني، قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي[1] وهناك نقدر على مناظرته، فمشينا إلى أحمد بن حنبل، فقلنا له: ائذن لنا في أن نحفظ «جامع الصغير» الذي لأبي حنيفة؛ نخوض معهم إذا خاضوا. فقال: اصبروا، فالآن يقدم عليكم المطلبي، الذي رأيته بمكة. قال: فقدم علينا الشافعي، فمشينا إليه وسألناه شيئًا من كتبه، فأعطانا كتاب «اليمين مع الشاهد» فدرسته في ليلتين، ثم غدوت على بشر المَرِيسي، وتخطيت إليه. فلما رآني قال: ما جاء بك؟ لسنا بأصحاب حديث. قال: قلت: ذرني من هذا، إيش الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد. فناظرته فقطعته، فقال: ليس هذا من كلامكم، هذا كلام رجل رأيته بمكة، معه نصف عقل أهل الدنيا[2].
[1] من المبتدعة المناظرين، ومن الذين قالوا بخلق القرآن، وقال علماء المسلمين ببدعيته وكفَّره آخرون
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك