ملخص المقال
الحق الفلسطيني بين القوة والاستجداء مقال بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي، يبين أثر استجداء عضوية فلسطين بالأمم المتحدة في نفوس الفلسطينيين، كيف ذلك؟ وما
كم كان الفلسطينيون يتوقون لإحساس العزة والكرامة في اجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك، فقد كانوا يتمنون أن يكون حالهم مغايرًا، وشكلهم مختلفًا، ووفدهم موحدًا، وخطابهم آخر، ومفرداتهم تزخر بمعاني العزة والكرامة والزهو والكبرياء، تتطلع إليهم الأمم، ويطمح أن يلتقيهم الرؤساء والملوك ورؤساء الوفود، ويتطلعون لنيل صداقتهم وكسب ودّهم، والاتفاق معهم على فتح علاقاتٍ دبلوماسية مع بلادهم، يحيط بهم الصحفيون والإعلاميون، ويلاحقونهم في كل مكان، وتتدافع أمامهم وسائل الإعلام، وتنعكس على وجوههم أضواء آلاف العدسات والكاميرات..
فقد كان أمل الشعب الفلسطيني أن يأتي اليوم الذي يذهب فيه نوابٌ عنهم إلى مقر الأمم المتحدة في عقر الولايات المتحدة الأمريكية، ليعلن من هناك استقلال فلسطين كلها، وانضمامها إلى المنظمة الدولية، عضوًا في الأسرة الدولية بكامل مواصفات العضوية، يجلسون جنبًا إلى جنب على مقاعد الأمم المتحدة مع مندوبي وممثلي الدول العربية والأجنبية، ويرتفع على منصة الأمم المتحدة العلم الفلسطيني، ويزين منصات مقاعدهم علم بلادهم الذي يستحق أن يكون له مكانٌ بين الأعلام، ومتسعٌ على ساريات الأمم المتحدة.
الفلسطينيون يتمنون اليوم الذي يعلنون فيه استقلال بلادهم، وتحرير أرضهم، وعودة أهلهم، واندحار عدوهم، وتطهير مقدساتهم، فهذا يومٌ من أيام فلسطين المجيدة، إليه يتطلع أهلها، ومن أجله يقاومون ويقاتلون، ويضحون ويقدمون، ولكن الفرق كبيرٌ بين استجداء الحق وسؤاله وبين نزعه بالقوة، واستلاله بالمقاومة، وفرضه بالإرادة والتصميم والتحدي، فما يُمنح بالسؤال والاستجداء هو الفضل الذي لا يحب أن يستبقيه مانحه، ولا يرغب في الحفاظ عليه، وقد يكون زاهدًا فيه، وحريصًا على التخلص منه، أما ما يُنتزع بالقوة، ويصبغ نازعه بالدم فهو الأنقى والأعز، والأغلى والأنفس، وهو محط الافتخار والاعتزاز، ومنبع الاحترام والتقدير.
وقد كان بإمكان الفلسطينيين أن يقفوا على منصة الأمم المتحدة بشكلٍ آخر، وأن يكون لسانهم ترجمانًا للمقاومة التي تعبد لهم الطريق، وتيسر عليهم المهمة، وتجلب لهم الهيبة والتقدير والاحترام، وأن يكون اعتراف دول العالم بهم التزامًا بالحق، ونزولاً عند واقع المقاومة، وإرادة القوة، ويقين الإيمان، وكان على ممثلي دول العالم أن يحترموا قرارهم، ويقدروا مطلبهم، وينفذوا إرادتهم، ويخضعوا لها ملزمين غير مختارين، فما تحققه القوة وتصنعه المقاومة يختلف في كل شيء عما يُستجدى بسلامٍ وحوارٍ مع أقوامٍ لا يملكون الحق بالتفاوض على ما لا يملكون، وإذا فاوضوا يكذبون، ويحنثون بأيمانهم ومواثيقهم ولا يوفون، ويتآمرون ويخونون، ويغدرون ولا يلتزمون.
فرقٌ كبير بين عدوٍّ يهرب من الميدان ويفر من المواجهة، ويخشى بأس المقاومة وشدة رجالها، ويدفع من أمنه وحياة مواطنيه، ويتعرض استقراره للفوضى، وسمعته للتشويه، وتتهدد مصالحه وتهتز مؤسساته، ويخشى على مستقبل وجوده، فتراه يبحث عمن ينقذه من مأزقه، وينتشله من حمأته، ويسعى لخلاصه من أزماته، وقد نالت منه المقاومة فأوجعته، وأصابته في سمعته فكسرت سيفه، وثلمت سلاحه، ونزعت عن جيشه القدرة على الترويع والتخويف والردع والإرهاب، فأصبح بالإمكان هزيمته، وتجريده من هالته، وإضعاف قدرته، فتراه يسعى للقبول بأي حل، والاستسلام أمام الخصم، والنجاة من مستقبلٍ محتومٍ ينتظره؛ إذ إن الشعوب لا تُقهر، والأمة لا تهزم، والمقاومة لا ينكسر أهلها، ولا يذل رجالها..
ولكنه ينجو من كل مآزقه، ويخرج من كل أزماته، ويتنفس الصعداء عندما يجد خصمه قد مدَّ له حبل النجاة، وألقى إليه بطود الإنقاذ، وتخلى عن مقاومته، وألقى سلاحه، وامتنع عن مواجهته، وسعى لتنظيف سمعته، وتطهير صفحته، وجلب الرضا الدولي له، وأبقى له على صورة جيشه قويًّا رادعًا، ورضي بأن يتسول منه، ويقبل بالحلول التي يمليها عليه، ويرجوه أن يقبل به، ويعترف بدولته التي سيتفضل بها عليهم، وهو غاية ما يتمناه العدو، وأكثر مما كان يحلم أن يحققه.
كثيرةٌ هي أمثلة الشعوب التي سبقت، وذهبت إلى الأمم المتحدة وعواصم القرار الدولية، وجلست فيها على مقاعد الحوار والمفاوضات، بينما كانت مقاومتها مستعرة، وثورتها ملتهبة، ورجالها يحملون بنادقهم، ويضغطون بأصابعهم على الزناد، لا يتكلون على المفاوضات، ولا يأملون في العدو ومن حالفه، وإنما يعتمدون -بعد الله- على شعوبهم وقدراتهم ومقاومتهم..
فهي أقدر على نيل الحقوق واستعادة المقدسات وتحرير الأرض، وما يتحقق بالقوة أكثر بكثيرٍ مما يُمنح على طاولة المفاوضات، وما ينتزع بالمقاومة أشرف مما تقيده الاتفاقيات والمعاهدات، وما تفرضه الإرادة أدعى إلى الاحترام وأسرع في الاعتراف، وأبلغ في التعبير، وأقدر على إسكات حلفاء العدو وأنصاره، وإجبارهم على التخلي عن العدو الذي يعتمد عليهم ويركن إليهم، ويستقوي بهم، ويقاتل بسلاحهم، ويعتدي باسمهم، ويرهب الآخرين بقوتهم، ويبطش بطائراتهم وصواريخهم وآلتهم العسكرية المدمرة، ولا يخشى على نفسه وشعبه اعتمادًا عليهم.
كم كنا نتمنى أن تكون كلماتنا في الأمم المتحدة كلمات عزة، ومفردات قوة، وتعابير نصر، وانعكاسات مقاومة، تصغي إليها الأمم وتستمع إليها الشعوب، يرتفع فيها صوتنا، ونصدح به في كل الدنيا، بصوتٍ عالٍ هادرٍ مزلزلٍ تسمعه الجوزاء في أبراجها، والأبراج في عليائها، فالاستقلال لدينا حلم وأمل، والتحرير لدينا غاية وهدف، والعمل من أجلهما فرضٌ وواجبٌ..
ولكننا نريده استقلالاً يرفع الرأس، ويشرف الوطن، ويحافظ على الأرض، ويتمسك بالثوابت، ولا يفرط في القيم، ولا يتنازل عن الحقوق، ويفرض شروطه، ويثبت استعلاءه، ويجبر العدو ومن حالفه على الندم، ويحذره من مغبة النكول والنكوص والانقلاب على الاتفاق والعهود، فتكون دولتنا مصانة بالقوَّة، محفوظة بالمقاومة، يخشى العدو المساس بها، أو الاعتداء عليها، تلك هي فلسطين التي إليها ننتمي، وإلى استقلالها نتطلع، وإلى الاعتراف بعضويتها نعمل.
روابط ذات صلة:
- فلسطين ما زالت حية
- فلسطين قضية إسلامية
- الشعوب المسلمة وفلسطين
- فلسطين لن تضيع .. كيف؟
- فلسطين قضية المسلمين الأولى
التعليقات
إرسال تعليقك