الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ هناك حبلًا يربط كلَّ المشتركات الخاصة معًا، وهذا الحبل هو "الهويَّة". فهويَّة الشعب هي شكله الذي يُميِّزه عن غيره، وهي طبيعته الفريدة التي
أهميَّة المشتركات الخاصَّة
إنَّ المشتركاتٌ الإنسانيَّةٌ الخاصة الثمانية أرى أنَّها تربط شعوبًا كثيرةً في العالم، نعم هي لا تربط كلَّ سكان الأرض برباطٍ واحد مثل الذي تقوم به المشتركات الإنسانية العامة، ولكنَّها على كلِّ حالٍ تربط شعبين أو أكثر، وبعضها قد يربط نصف سكان العالم أو أكثر في مرحلةٍ من مراحل التاريخ.
وكما قلنا في مسألة المشتركات العامَّة أنَّ هناك حبلًا يربط كلَّ المشتركات العامَّة ببعضها البعض، وذكرنا أنَّ هذا الحبل هو "الفطرة"، فإنَّنا نقول الكلام نفسه هنا في المشتركات الخاصَّة، ونقول: إنَّ هناك حبلًا يربط كلَّ هذه المشتركات معًا، وهذا الحبل هو "الهويَّة".
فهويَّة الشعب هي شكله الذي يُميِّزه عن غيره، وهي طبيعته الفريدة التي يعتزُّ بها، وهي خصوصيَّته التي ليست لأحدٍ إلَّا هو..
ومع أنَّنا ذكرنا أنَّ المشتركات الإنسانيَّة العامَّة أهم؛ حيث إنَّ الإنسان لا يستطيع بحالٍ أن يعيش دونها، إلَّا أنَّ المشتركات العامَّة لا تُعْطَى لشعبٍ "هديَّة"؛ لأنَّها موجودةٌ بشكلٍ عامٍّ في كلِّ الشعوب، فكلُّ الشعوب تأكل وتشرب وتلبس وتسكن، وكلُّ الشعوب تعقل وتفكر، وكلُّ الشعوب تحبُّ الحريَّة وتعتزُّ بكرامتها، ومن هنا فليس هناك فارقٌ في هذا بين مسلمٍ ونصراني، وليس هناك فارقٌ بين إفريقيٍّ وآسيويٍّ، وليس هناك فارقٌ بين بدائي وحضاري..
لكنَّ الوضع في المشتركات الخاصَّة مختلف؛ فهي ليست مشتركات بين كلِّ البشر، إنَّما فقط في شعبٍ واحدٍ أو عدَّة شعوب، كما أنَّ التباديل والتوافيق تجعل كلَّ شعبٍ مختلفًا في شكلٍ من الأشكال عن غيره، وبالتالي له هويَّةٌ لا يُشبهه فيها أحد، فحتى لو اتَّفق معه شعبٌ في لغةٍ أو عرقٍ فسيكون له تاريخٌ مختلف، أو قانون مغاير، أو عادةٌ أو تقليدٌ متفرِّد، وهكذا تجد آلاف الصور و"الهويَّات" في الدنيا، وهذا لا شَكَّ يكون مشبعًا لرغبة كلِّ شعبٍ في التميُّز عن الآخرين..
ولكي تكتمل الصورة نذكر أنَّ المشترك الأسمى -أيضًا- يُعطي جانبًا مهمًّا من هذه الهويَّة، فعقيدة كلِّ شعبٍ أو أُمَّةٍ هي عقيدةٌ متفرِّدةٌ خاصَّةٌ به، بل هي أهمُّ ما يصبغه، وأقوى ما ينتمي إليه، ولهذا من خلال رؤية هذه النظريَّة فإنَّ الهويَّة هي مجموع المشترك الأسمى (العقيدة) مع مجموعة المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، وقد تضمُّ إليهم -ولكن بشكل أقلَّ- المشتركات الإنسانيَّة الداعمة، التي سنتحدَّث عنها بعد قليلٍ بإذن الله..
وهذه النظرة لهذه المشتركات تُعطيها قيمةً كبيرةً جدًّا؛ حيث إنَّ أيَّ محاولاتٍ لطمس هذه الهويَّة، أو العبث بأيٍّ من هذه المشتركات يعني طعنًا مباشرًا في غرَّة هذا الشعب، ومصدر افتخاره، ولا نتوقَّع أن تمرَّ الأمور دون صدامٍ إذا مسَّ أحدٌ هذه "الهويَّة"، خاصَّةً إذا كان هذا المسُّ عنيفًا أو مستفزًّا.
الهوية والتغيير الناعم
ومع أنَّنا نقول: إنَّ هذه المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة هي التي تصبغ "الهويَّة"، ولها هذا القدر من القيمة. إلَّا إنَّنا نقول: إنَّها ليست من الثوابت، بل هي قابلةٌ للتغيير!
قد يستغرب هذا الكلام بعضنا! لكنَّه في الواقع ليس غريبًا؛ بل قلناه قبل ذلك على ما هو أهم، فقد ذكرناه على المشترك الأسمى "العقيدة"!
إنَّ هذه المشتركات الخاصَّة كلَّها قابلةٌ للتطوُّر حسب معطيات الزمان والمكان، وحسب الظروف البيئيَّة والحياتيَّة، وحسب تأثير القوى العالميَّة الكبرى، وحسب قوَّة الإقناع والحجَّة لدى المفكِّرين والمنظِّرين من أصحاب الحضارات المختلفة.
إنَّك لو قرأتَ شعرًا باللغة العربيَّة الفصحى القديمة لعلَّك لا تستطيع أن تفهم معظم الأبيات، ولقد تطوَّر الزمن واستُخدمت مصطلحات جديدة، وأصبح هناك دلالات مختلفة للكلمة نفسها، وهكذا صار الذين يتكلَّمون العربيَّة الآن وكأنَّهم يتكلَّمون لغةً أخرى، بل لم يُمانع العرب أن تدخل إلى لغتهم ألفاظًا أجنبيَّة، تارةً إيطاليَّة ويونانيَّة، وتارةً أخرى فرنسيَّة، وتارةً ثالثة إنجليزيَّة، حسب الظروف العالميَّة، وحسب البعثات العربيَّة إلى البلاد الأخرى، وحسب الجاليات الأجنبيَّة في البلد العربي، وحسب نوع الاحتلال، وغير ذلك من أمورٍ تُغيِّر ببطءٍ من أحد المشتركات الخاصَّة، وقد يكون التغيير بطيئًا إلى درجةٍ لا يشعر بها المواطنون.
وهذا "التغيير الناعم" قد يحدث بتخطيط أو دون تخطيط! أي من الممكن لدولةٍ مهيمنةٍ من دول العالم أن تسعى لتغيير "هويَّة" بلدٍ ما بهذا الأسلوب الناعم البطيء، فتبثُّ إعلامها وكتبها ومفكِّريها في هذا البلد، وتستقدم المبعوثين إليها، وتُصَدِّر إليه ثقافات وأفكار، وتُصَدِّر إليه -كذلك- فنونًا وألعابًا، وما هي إلَّا عدَّة سنوات أو عقود حتى يتمَّ "مسخ" هويَّة البلد الضعيف.
وقد يكون هذا "التغيير الناعم" دون خطَّةٍ محدَّدة؛ فالدولة القويَّة بطبيعة الحال تنشر ثقافتها بألف وسيلة، وشعوب العالم الضعيفة تنظر إلى الدول القويَّة على أنَّها القدوة في كلِّ شيء، بل لا تُمانع بعض الشعوب الخانعة أن تنقل ثقافات الآخرين بحلوها ومرِّها، وحسنها وسيِّئها؛ طمعًا في السير في ركاب المنتصرين، وهنا يحدث "المسخ" بإرادة الضعفاء، وليس تحايلًا عليهم ولا قهرًا لهم.
وهذا "التغيير الناعم" له عيوبه وله مزاياه.. ممَّا يجعل المفكِّرين غير متحمِّسين للدفاع عنه، وليسوا متحمِّسين كذلك للهجوم عليه!
عيوب التغيير الناعم
فمن عيوبه القاتلة أنَّه يُحَوِّل شخصيَّة الشعب المتميِّزة إلى شيءٍ آخر، وهذا الشيء الجديد قد لا يكون مناسبًا لطبيعة الشعب ولا لبيئته، فتحدث أزمات ومشاكل، كما أنَّ مجرَّد إحساس الشعب أنَّه لم يَعُدْ له شكلٌ معروفٌ ولا هيئةٌ متميِّزةٌ يُرسِّخ عنده الشعور بالتبعيَّة، وقد يُسَوِّغ له بعض مشاعر الذلِّ أو الإحباط.. وهذا الوضع الجديد قد يُؤَدِّي إلى تذويب الشعب تمامًا حتى لا يُصبح قادرًا على الدفاع عن وطنه، وقد يتطوَّر الأمر معه فيرغب في هجره وتركه والسكنى في البلد الكبير الذي غلبت هويَّته على هويَّة وطنه، بل قد يصل الأمر أحيانًا في بعض الحالات المتردِّية إلى أن يسعى المواطن إلى مساعدة البلد الكبير في هضم واستيعاب الوطن الأصلي له!
إنَّنا يُمكن أن نقول بوضوحٍ ووفق هذه النظريَّة: إنَّ المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة هي التي تدفع المواطنين إلى حبِّ الانتماء لوطنهم وشعبهم، فإذا ذابت هذه المشتركات، أو تغيَّرت، أو تميَّعت، فإنَّ الانتماء يكون في خطرٍ عظيم..
هذا من ناحية عيوب التغيير الناعم للهويَّة..
مميزات التغيير الناعم
أمَّا من ناحية مزاياه فإنه يُقَرِّب بين الشعوب، ويُشَجِّع على التواصل بينهم؛ لأنَّه يجعل الشعوب تُشبه بعضها بعضًا؛ ومن ثَمَّ يقلُّ استنكار الأفكار والعادات والتقاليد، وغيرها من الأمور، فيزيد التعاون والتواصل.
لكني -مع ذلك ومع كون النظريَّة قد صيغت في الأساس لدعم التواصل والتعارف بين الشعوب- أرى أنَّ العيوب أعلى بكثير من المزايا؛ ولذلك فأنا أدعو كلَّ شعبٍ أن يُحافظ على هويَّته قدر ما يستطيع؛ ذلك أنَّ الشعب الذي له هويَّةٌ هو شعبٌ محترمٌ يقف على قدم المساواة مع الشعوب التي تُحيط به، وهذا الاحترام والاعتزاز بالنفس يكفل له قوَّة وهيبةٌ تُحافظ عليه، والشعوب التي تقبل "الذوبان" شعوب رخوة لن تستطيع مستقبلًا أن تُدافع عن نفسها، وهذا بالتبعيَّة قد يقود إلى "طمع" الدولة القويَّة في الهيمنة العسكريَّة أو السياسيَّة أو الاقتصاديَّة أو الاجتماعيَّة.. أو كلِّ ذلك معًا على "الدولة الذائبة".. وهذا في آخر المطاف سيقود إلى صدام؛ لأنَّ هذا كلَّه سيعني في النهاية التعدِّي على "كرامة" الشعب، وكما ذكرنا قبل ذلك أنَّ الكرامة من المشتركات الإنسانية "العامَّة" وليست "الخاصَّة"، وبالتالي لا يستطيع إنسان أن يعيش بدونها، فلو حدث اعتداء عليها صار الصدام واجبًا.
من هنا نقول: إنَّ الحفاظ على "الهويَّة" في الحقيقة يمنع الصدام، ويُشَجِّع على التعارف، ولن تتعارف الشعوب مع بعضها البعض إلَّا إذا كانت هناك ندِّيَّة بين هذه الشعوب، وهذه الندِّيَّة لا تكون إلَّا بهويَّة مستقلَّة، وشخصيَّة متفرِّدة.
العولمة والهويَّة
ولعلَّ الحديث الآن ضروريٌّ عن "العولمة" وأثرها في مسألة "الهوية"؛ فالعالم في الواقع تحوَّل إلى قريةٍ صغيرةٍ عبر وسائل الإعلام والأقمار الصناعيَّة وشبكات الإنترنت وتقنية الاتصال والمراسلة.. ولم يَعُدْ هناك شيءٌ "خاص" في بلدٍ لا يعرفه الآخرون في شتَّى بقاع العالم، وهذا من الواضح أنَّ له خطورته في أنَّ الأقوى سيكون أقدر على تسويق بضاعته في البلاد الضعيفة، التي قد تنبهر بما عند الأقوياء فيذوبون فيهم، وهذا يُؤَدِّي -كما ذكرنا قبل ذلك- إلى مسخ الهويَّة، لكنِّي في الوقت نفسه أدعو بقوَّة إلى "تلقيح الحضارات"، بمعنى أنَّه ينبغي ألَّا تكون الحساسيَّة في الحفاظ على الهويَّة مفرطة إلى درجة عدم الرغبة في تغيير الأخطاء أو تعديل المسار بغية التمسُّك بالذات، وبهدف تعزيز الانتماء.. فاطِّلاع الشعوب والمفكِّرين على ثقافات وعادات الآخرين قد يكشف عيوبًا في المجتمع توارثتها الأجيال دون تفكير، ولم يجرؤ أحد على الإصلاح، ومن هنا فإنَّه ينبغي التوازن العاقل بين الحفاظ على الهويَّة، وبين السعي على إصلاح العيوب والأخطاء، ومن هنا جاءت دعوتي إلى "تلقيح الحضارات"، بمعنى أنَّه على كلِّ حضارةٍ أن تُلَقِّح نفسها بما تراه مفيدًا وناجحًا في الحضارات الأخرى، ولا مانع من أخذ أصل الشيء مع تعديله وتحويره وتطويره بما يُناسب الحضارة الآخذة، وهكذا يُمكن للبشر أن يُثْرُوا بعضهم البعض، ويُمكن للدنيا أن تشهد حضارات تجمع بين جهود شعوب مختلفة، ولا مانع كذلك -بل ينبغي- أن تصبغ كلُّ حضارةٍ ما تأخذه من الآخرين بصبغتها الخاصَّة؛ حتى تظلَّ محتفظة بهويَّتها دون أن تُعَطِّل مسيرة التنمية فيها.
وآخر ما أختم به الحديث في مسألة المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة هو التحذير الشديد من أيِّ محاولةٍ لطمس هويَّة الشعوب عن طريق القوَّة والجبر؛ فهذا ما لا يُمكن أن يتمَّ معه تواصل، والنَّاس بشكلٍ عامٍّ لا ترضى بالإكراه، حتى لو كان الإكراه لتحقيق المصالح، أو لتجميل الحياة!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك