الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
ثمَّة ثلاث درجات لاستعمال التاريخ في التقريب بين الأمم والشعوب: الأولى في حالة وجود تاريخ من التوافق، الثانية في حالة عدم وجود تاريخ مشترك، والثالثة في
دور التاريخ في التقريب بين الشعوب:
ثمَّة ثلاث درجات لاستعمال التاريخ في التقريب بين الأمم والشعوب: الأولى في حالة وجود تاريخ من التوافق، فحينئذٍ تُستعمل هذه الورقة لتكون من ضمن خطوط التواصل بين الشعبين. الثانية في حالة عدم وجود تاريخ مشترك، فحينئذٍ يكون انعدام التاريخ العدائي من الأسباب التي تُتيح مساحة إضافيَّة -مع المشتركات العامَّة والخاصَّة- للتقارب بين هذين الشعبين. الثالثة في حالة وجود تاريخ عدائي بين الدولتين، فحينئذٍ يكون من واجب المتعرِّضين للتقريب والحوار بين الشعبين أن يتجاوزوا هذه النقطة، وألَّا يكون هذا التاريخ مثار حوار على مائدة التقارب، فإنه إنْ أُثِير نكأ جروح الماضي، ونسف آمال التقارب والتواصل والالتقاء.
ثُمَّ تأتي مساحةٌ أخرى يصنعها التاريخ المشترك؛ لزيادة التقريب بين أبناء الشعب الواحد، فيكون إضافةً إلى ما بينهم من الروابط والمشتركات العامَّة والخاصَّة، وهذا المعنى يلتقطه الفقيه القانوني عبد الرزاق السنهوري فيقول: "المدنيَّة الإسلاميَّة هي ميراث حلال للمسلمين والمسيحيِّين واليهود من المقيمين في الشرق، فتاريخ الجميع مشترك، والكلُّ تضافروا على إيجاد هذه المدنيَّة"[1].
هذه العبارة التي قالها الفقيه القانوني المسلم لا يُشبهها إلَّا أختها التي قالها المفكِّر القومي المسيحي الأرذوكسي نقولا زيادة، قال: "وبتعريب العناصر الأخرى بالاختلاط والتزاوُج والجوار وبنشر الإسلام واللغة العربيَّة- أصبح تاريخ البلاد العربية تاريخًا مشتركًا للعرب من المسلمين والنصارى، وخلَّف هذا التاريخ المشترك ذكريات قوميَّة، واختبارات وطنيَّة، وأدبًا قوميًّا، وقَصَصًا شعبيًّا، وشعرًا حماسيًّا كُتب بلغةٍ عربيَّة واحدة، هذا التاريخ المشترك هو الذي وحَّد تقاليد العرب وعاداتهم، وقَرَّبهم بعضهم من بعض"[2].
لقد استطاعت الحضارة الإسلاميَّة أن تضرب المثل في هذا الباب أيضًا؛ فحيث خلا تاريخ الحضارة الإسلاميَّة في عمومه من الاستعلاء والعنصريَّة والاضطهاد للطوائف غير المسلمة، كان البديل أن نتج "تاريخ مشترك" بين كلِّ هذه الأطياف والطوائف.
لا تاريخ عدائي:
الشعوب في هذا عالمنا ينحصر تاريخها العدائي مع عددٍ قليلٍ من الشعوب: شعب أو شعبين أو ثلاثة، أمَّا باقي الشعوب فإمَّا كان التاريخ الواصل بينهما تاريخٌ طيِّبٌ ومثمر، وإلَّا لم يكن بينهما تاريخٌ مشترك، وبهذا تكون الغالبيَّة العظمى من العلاقات بين شعوب العالم علاقات تستند إلى التاريخ الخالي من العداوات فيما بينهما، وهذه العلاقات ستكون بطبيعة الحال بين الشعوب المتباعدة جغرافيًّا؛ حيث تقل فرص نشوب نزاعات على الأرض أو الموارد، وتنعدم محاولات الاحتلال والتوسُّع من أحدها على حساب الآخر.
وعلى سبيل المثال نأخذ العلاقة بين مصر وأرمينيا؛ فنحن لا نكاد نجد بين الدولتين تاريخًا من التوافق والتآزر، كما لا نجد تاريخًا من العداء والتنافر، ثُمَّ إنَّ الجغرافيا لا تُؤَهِّل قيام علاقةٍ وثيقةٍ بين البلدين، غير أنَّه بالنظر إلى تاريخ العلاقات بينهما سنجدها بدأت من القرن الثاني الميلادي؛ حيث تمَّت هجرة أرمينيَّة كبرى إلى مصر، ثُمَّ أُنشئت أوَّل كنيسةٍ للأرمن في مصر في القرن العاشر الميلادي[3]، فكانت هذه الكنيسة وراء هجرة الأرمن في الحقب التالية، التي تكاثرت فيما بعدُ، وتولَّى بعض الأرمن مناصب مهمَّة؛ مثل نوبار باشا الذي كان أوَّل رئيسٍ للوزراء في مصر؛ لقد ساعد هذا التاريخ على قيام علاقات ثقافيَّة وفنيَّة وعلميَّة واقتصاديَّة وسياحيَّة بين البلدين[4].
بل وقد نجد حالات أخرى تنعدم فيها العلاقة التاريخيَّة حتى على مستوى الشعوب، فإذا تتبَّعْنَا -على سبيل المثال- العلاقة بين مصر وكمبوديا فسنجدها قد بدأت مؤخَّرًا (فبراير 1958م)، ولا شَكَّ أنَّ خلوَّ التاريخ المشترك من الصبغة العدائيَّة كان محفِّزًا لنموٍّ سريعٍ في العلاقات، فبعد سنتين (1960م) ارتفع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى السفارة، واعترفت كمبوديا بالجمهوريَّة العربيَّة المتحدة[5]، وَوُقِّعَتْ معاهدتان للتجارة والثقافة، وتواصلت مجهودات كثيرة بين البلدين تصبُّ في مصلحتيهما[6].
تاريخٌ من التوافق:
يُمَثِّل التاريخ الإسلامي عنصرًا مشتركًا بين كلِّ الدول الإسلاميَّة، وكما ذكرنا من قبل في أنَّ الهويَّة والطموحات هي التي تُحَدِّد من أين يبدأ التاريخ، فإنَّ وجود الهويَّة الإسلاميَّة التي بدورها تدفع المسلمين دائمًا إلى التحالف والتكتُّل بل والتوحُّد، يجعل التاريخ الإسلامي منذ بُعث النبيُّ r نقطةً تبدأ من عندها الشعوب الإسلاميَّة، واستنادًا إلى هذه الحقيقة سيُمَثِّل هذا التاريخ المشترك عنصرًا إضافيًّا بين الدول الإسلاميَّة، لا سيَّما المتباعدة جغرافيًّا.
وكمثالٍ على هذه الحالة نأخذ العلاقة بين مصر وباكستان؛ فهي علاقةٌ ترتكز على محورين: الدين الذي يصنع تاريخًا مشتركًا بين الشعبين، ثُمَّ التاريخ الخالي من العداء، فكانت مصر من الدول التي سارعت للاعتراف بباكستان، وتبادلت معها العلاقات الدبلوماسيَّة، وأيَّدتها في الأمم المتحدة بشأن قضيَّة الجلاء البريطاني، واشتركت باكستان ومصر في تأسيس المؤتمر الإسلامي 1956م، الذي كان نواةً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ورفضت مصر موقف الهند في حرب 1965م، كما رفضت انفصال باكستان الشرقيَّة 1971م، وصوَّتت ضدَّ الغزو الهندي في الأمم المتحدة، وكانت باكستان قد رفضت قيام دولة الكيان الصهيوني 1948م، وعدوانها على مصر 1956م، وعدوانها التالي في 1967م، وأيَّدت مصر في حرب 1973م، وشهدت العلاقات بين البلدين نموًّا وتطورًا كبيرًا في المراحل التالية، كما لا يزال الشعب المصري -مع باقي الشعوب الإسلاميَّة- يُؤَيِّد باكستان في قضيَّة كشمير[7].
وإذا كانت الحالة المصريَّة الباكستانيَّة نموذجًا لتاريخ بلا عداء -بالإضافة لاشتراكهما في الدين- فإنَّ الحالة المصريَّة الجزائريَّة -كمثال- هي الحالة التي يُمَثِّل فيها التاريخ عنصرًا أقوى، فثمَّة تاريخٌ من التعاون المشترك يُضاف إلى الاشتراك في الدين واللغة.
"فمنذ خمسينيَّات القرن العشرين وضعت مصر كلَّ إمكانيَّاتها الماديَّة والمعنويَّة لمناصرة ثورة الجزائر عام 1954م إلى أن حصلت على استقلالها، كما كانت أُولى الدول التي شاركت بأبنائها في تحقيق عمليَّة التعريب لمناهج التعليم بالجزائر، واستعادة هويَّتها العربيَّة، وبالنسبة إلى الجزائر فقد شاركت مصر بكلِّ قوَّةٍ في حربها مع إسرائيل عامي 1967م و1973م، وسال الدم الجزائري مع الدماء المصريَّة على أرض سيناء.. وخلال العقد الأخير من القرن العشرين شهدت العلاقات بين البلدين آفاقًا جديدةً من التعاون واتفاق الرؤى بشأن مختلف القضايا الدوليَّة والإقليميَّة، ويأتي على رأسها الصراع العربي الإسرائيلي"[8].
وحَلَّ هذا التاريخُ عنصرًا ملطِّفًا للأجواء بعدما نشبت أزمة بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة القدم في أواخر عام 2009م، واستخدمه العقلاء في كلا البلدين للتذكير به، كما استخدمه الدبلوماسيُّون في سعيهم لتهدئة الأجواء، ونرى هذا بوضوح في تصريح وزير الخارجيَّة المصري أحمد أبو الغيط: "لا يجب أن ننسى أنَّ الجيش الجزائري حارب على الأرض المصريَّة، ولا يجب أن ينسى الأخوة في الجزائر أنَّ مصر كانت السند الأساسي لمساعدة جيش التحرير الجزائري للانتصار على الاستعمار الفرنسي"[9].
وتظلُّ أقوى الحالات التي يحلُّ فيها عنصر "التاريخ المشترك" كعنصرٍ تقريبي هي حالات الدول التي كانت متوحِّدة ثُمَّ انقسمت أو انفصلت لعديدٍ من الأسباب والظروف التاريخيَّة، سواءٌ الخاصَّة بالاستعمار أو التي أدَّت إليها بعض النزاعات.
ومن أوضح هذه الأمثلة أرض الشام التي ظلَّتْ أرضًا واحدةً عبر تاريخها، حتى تمَّ الاتفاق بين المستعمرين الإنجليز والفرنسيِّين على تقسيم هذه البلاد في إطار السعي لتمزيق الدولة العثمانيَّة، التي كانت تحكم هذه الأراضي، فتحوَّلت أرض الشام إلى أربع دول؛ هي: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان[10].
وكذلك بلاد السند والهند التي تُمثِّل الآن دول الهند وباكستان وأفغانستان؛ فهذه البلاد تُمثِّل وَحدةً بشريَّةً على الرغم من تنوُّعها البديع في الأعراق واللغات والثقافات، وعلى الرغم من توزُّعها على الدول التي تنازعت السيطرة على هذه المناطق، فإنَّها ظَلَّتْ تُمَثِّل كيانًا واحدًا، وكثيرًا ما حُكم هذا الكيان ككتلةٍ واحدةٍ -ما عدا المناطق الجنوبيَّة من الهند- كما حدث مع الغزنويِّين والغوريِّين وسلاطين المغول، حتى في عهد الاحتلال الإنجليزي كان الإنجليز يحتلُّون هذه المنطقة.
لقد انفصلت أفغانستان وأصبحت كيانًا وحدها منذ عهد نادر خان في القرن الثامن عشر[11]، أمَّا انفصال باكستان عن الهند فقد كان في عام 1947م بعد مزيدٍ من النزاعات الدينية بين المسلمين والهندوس، التي يُشار بأصابع الاتهام في إشعالها وتغذيتها إلى الاستعمار الإنجليزي، وهذا ما جعل الانفصال على أساس ديني مطلبًا ملحًّا، وهو الانفصال الذي لم يخلُ من أحداث دمويَّة[12].
والقصد أنَّ التاريخ المشترك لهذه المنطقة يُمكن أن يكون الورقة الأقوى على مائدة اللقاء والتحاور، بالإضافة إلى التداخل العرقي واللغوي والاشتراك في الأرض والمصالح المشتركة.
التاريخ العدائي:
وأخيرًا، فإذا كان التاريخ بين بلدين تاريخًا عدائيًّا في مجمله فإنَّه ينبغي في هذه الحالة على المتحاورين أن يرفعوا هذه الورقة من على مائدة الحوار، وأن يُحاولوا تجاوزها؛ لأنَّها ورقةٌ إذا دار حولها حديثٌ نُكِئَت فيها الجراح واستُثِيرَت فيها النفوس واستُعْلِنَت العداوات، فآخر ما يُمكن أن يُقال في حوارٍ بين الجزائر وفرنسا هو ذلك الذي يُذَكِّر بقرنٍ ونصفٍ من الاحتلال، الذي سقط فيه أكثر من مليون شهيد، والحال نفسه عند الحوار بين إسبانيا والمغرب، أو بين ليبيا وإيطاليا، أو بين مصر وبريطانيا أو بين العراق وأميركا.. وهكذا.
ويُمكن الاستفادة بالتجربة التركيَّة الأرمينيَّة التي بدأ الأتراك والأرمن يتجاوزون فيها المشكلات التاريخيَّة، "فأرمينيا تُريد من تركيا شريكًا تجاريًّا قويًّا وطريقًا للانفتاح على الغرب، وسندًا في نزاعاتها الإقليميَّة الأخرى، كما ترى تركيا مصلحةً استراتيجيَّةً في إنهاء خصوماتها التاريخيَّة مع أرمينيا وقبرص وكردستان العراق، ونزع ما يُمكن أن يكون سبيلًا لتدخُّلاتٍ خارجيَّةٍ بجانب ممارسة دورٍ إقليميٍّ أكثر حيويَّة"[13].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] نادية السنهوري، توفيق الشاوي: عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية، ص118. نقلًا عن: محمَّد عمارة: في المسألة القبطية، ص11.
[2] محمد عدنان البخيت وآخرون: نقولا زيادة في ميزان التأريخ، ص295.
[3] أي: الثالث الهجري وفي ظلِّ الحكم الإسلامي.
[4] انظر التفاصيل في: إبراهيم حامد المغازي: أرمينيَّة، منشور في الأطلس الآسيوي، تحرير: محمد السيد سليم، رجاء إبراهيم سليم، ص82، 83.
[5] في سنة 1958 تمَّ التوافق بين مصر وسوريا على الاتحاد في دولةٍ واحدة، وسُمِّيت "الجمهوريَّة العربيَّة المتحدة"، غير أنَّ هذا الاتحاد لم يستمر أكثر من ثلاث سنوات وانتهى في 28 سبتمبر 1961م.
[6] انظر التفاصيل: رضا هلال: كمبوديا، منشور في الأطلس الآسيوي، تحرير: محمد السيد سليم، رجاء إبراهيم سليم، ص360-362.
[7] انظر التفاصيل: جلال الحفناوي: باكستان، منشور في الأطلس الآسيوي، تحرير: محمد السيد سليم، رجاء إبراهيم سليم، ص150-152.
[8] العلاقات المصرية الجزائرية، النشرة الرسمية للهيئة العامة المصريَّة للاستعلامات، من موقعها على الإنترنت، على الرابط: www.sis.gov.eg.
[9] تصريح بتاريخ 6/6/2010م، عقب لقاء مع وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسى على هامش مشاركتهما في قمة فرنسا - إفريقيا بمدينة نيس الفرنسية يومي (31/5، 1/6/2010م).
[10] رأفت غنيمي الشيخ وآخرون: تاريخ آسيا الحديث والمعاصر، ص309، وما بعدها.
[11] عاطف سعداوي: أفغانستان، منشور في الأطلس الآسيوي، تحرير: محمد السيد سليم، رجاء إبراهيم سليم، ص93.
[12] انظر التفاصيل: محمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 19/35-182.
[13] تقرير مجموعة الأزمات الدولية 14/4/2009، عرض ماهيتاب مكاوي: مجلة السياسة الدولية يوليو 2009م، بتصرف.
التعليقات
إرسال تعليقك