التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن الحرب الروسية العثمانية (1676-1681م)، وما أهم أحداثها ونتائجها؟
الحرب الروسية العثمانية (1676-1681م):
كان من المتوقَّع أن ينشأ توتُّرٌ كبيرٌ بين روسيا والدولة العثمانية نتيجة تجاور العملاقين في أوكرانيا! الآن بعد تطوُّرات الحرب العثمانية البولندية (1672-1676م) صار نهر الدنيبر يفصل بين الدولتين؛ في شرقه روسيا (الضفة اليسرى)، وفي غربه العثمانيون (الضفة اليمنى). في فبراير 1676م -وأثناء الحرب العثمانية البولندية- غيَّر أمير أوكرانيا دوروشينكو التابع للعثمانيين ولاءه من الدولة العثمانية إلى روسيا، وطلب الدعم العسكري من حليفه الجديد[1]. عبرت القوَّات الروسية -مدعومة بقوزاق شرق أوكرانيا- نهر الدنيبر غربًا إلى قلعة شيهيرين Chyhyryn المهمَّة، واحتلتها. هذه هي العاصمة التقليديَّة للقوزاق، ومن أحصن مدن أوكرانيا. كان هذا بمثابة إعلان حربٍ روسيَّةٍ على العثمانيين. استجابت الدولة العثمانية بإخراج جيشٍ لتحرير شيهيرين؛ وذلك في يوليو 1677م[2].
أرى أن خروج هذا الجيش كان متأخِّرًا، خاصَّةً مع النظر إلى طبيعة الطقس الثلجيَّة في هذه المناطق، وقرب حلول الشتاء. بعد مناوشات ومعارك مباشرة في شهري أغسطس وسبتمبر خسرت القوَّات العثمانية الصدام[3]، وفقدت عشرين ألف جندي، ولم تتمكَّن من استرداد القلعة[4]! كان وقع الهزيمة كبيرًا على الدولة العثمانية؛ ممَّا دفعها إلى إخراج جيشٍ كبيرٍ في ربيع 1678م لحرب الروس. كان الجيش بقيادة الصدر الأعظم، وقد صحبه السلطان محمد الرابع حتى مدينة سيلسترا Silistra شمال بلغاريا. بعد معارك كبيرة تمكَّن الجيش العثماني من تحقيق النصر، واستطاع فتح قلعة شيهيرين في 21 أغسطس 1678م؛ ولكنه لم يُكمل طريقه شمالًا لملاقاة الجيش الروسي الرئيس المتمركز في كييڤ[5]. هذه هي طبيعة «قرن الثبات» مرَّةً أخرى! توازنٌ بين القوى يُؤدِّي إلى تعادلٍ في الهزيمة والنصر.
حدثت مناوشاتٌ أخرى بين الطرفين في عامي 1679 و1680م دون نتيجة، وانتهى الأمر بالفريقين إلى المفاوضات السلميَّة. عُقِدَت في 3 يناير 1681م معاهدة باخشي سراي Bakhchisarai (وتُعْرَف -أيضًا- بمعاهدة رادزين Radzin)، وفيها اتَّفق الطرفان على جعل نهر الدنيبر هو الحدود بين الدولتين، ووضع الحرب بينهما لمدَّة عشرين عامًا[6]. كانت هذه البنود حبرًا على ورق؛ إذ سيقوم الروس -كالعادة- بنقض المعاهدة في عام 1686م، بعد خمس سنواتٍ فقط من توقيعها!
ولاية بطرس العظيم في روسيا (1682م):
كان التوازن بين الدولتين الكبيرتين -الدولة العثمانية وروسيا- ملحوظًا، وكان من الممكن أن يستمر هذا التوازن طويلًا، لولا ولاية بطرس الأكبر أو العظيم Peter the Great، لروسيا في 7 مايو 1682م؛ أي بعد انتهاء الحرب بأقلَّ من عامٍ ونصف. وسَّع هذا القيصر روسيا جدًّا من خلال عدَّة حروبٍ ناجحة، ووضع الأساس للبحريَّة الروسيَّة المتفوِّقة، واكتسب لها موانئ على البحر الأسود، وبحر البلطيق الشمالي، وعلى المستوى الداخلي بنى عددًا كبيرًا من المؤسَّسات الناجحة، وحَدَّث روسيا علميًّا، وثقافيًّا، وسياسيًّا، من خلال الاندماج مع الأنظمة الغربيَّة المتطوِّرة[7]. أنشأ مدينة سان بطرسبرج Saint Petersburg ناحية أوروبا، وجعلها عاصمةً لروسيا[8]، وظلَّت كذلك حتى عام 1917م[9]. هذا الرجل كان أحد الأسباب التي أدَّت إلى ميل كفَّة موازين القوى لصالح الروس في تنافسهم المحموم مع الدولة العثمانية.
مقدِّمات الحرب العثمانية النمساوية الكبرى (1681-1682م):
في عام 1681م قام إمري توكولي Emeric (Imre) Thököly -وهو أحد الأمراء المجريين البروتستانت- بثورةٍ على الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول؛ وذلك في المناطق التابعة للنمسا في شمال غرب المجر. سبب الثورة هو المحاولات المتكرِّرة من الإمبراطور لسحق البروتستانتيَّة في دولته. كردِّ فعلٍ للثورة أرسل الإمبراطور عدَّة جيوشٍ للقضاء عليها[10]. في عام 1682م لم تكتفِ الجيوش النمساويَّة بدخول المناطق التي يقوم فيها توكولي بالثورة؛ إنما اقتحمت وسط المجر التابع للدولة العثمانية، في محاولة لاستغلال الحدث وضم بعض الأراضي المجريَّة العثمانية، وتمكَّنت من ضمِّ قلعة چايور Győr المهمَّة. تقدَّم توكولي بطلب المساعدة من الدولة العثمانية، والدخول في حمايتها. طلبت الدولة العثمانية من النمسا إرجاع قلعة چايور، ولكن كان الردُّ أن استردادها يكون بقوَّة السلاح لا بقوَّة الكلمات[11][12][13][14]! كان هذا نقضًا واضحًا لمعاهدة ڤاسڤار المبرمة في 1664م، والتي وضعت الحرب بين الفريقين لمدَّة عشرين عامًا؛ أي من المفترض أن تنتهي في عام 1684م.
من الواضح أن مسألة حفظ العهود عند الأوروبيين مسألةٌ لا معنى لها، وليس فيها أبعادٌ أخلاقيَّةٌ بالمرَّة؛ إنما يعتبرون أن المعاهدات نوعٌ من الضعف، فإذا قويت الدولة فلا مانع عندها إذن من نقض المعاهدة! فعلت ذلك بولندا بعد توقيع معاهدة بوزاز عام 1672م، وستفعل ذلك مرَّةً ثانيةً عندما تنقض معاهدة زوراونو المبرمة عام 1676م، وفعلت ذلك فرنسا عندما حاربت في سان جوتار عام 1664م ناقضةً تحالفها مع العثمانيين، وفعلت ذلك النمسا الآن، وستفعل ذلك روسيا عام 1686م عندما تنقض معاهدة باخشي سراي. هذه ليست حوادث غدر عارضة؛ إنما هي ثوابتٌ في السياسة الأوروبية، على الأقل في هذه المرحلة التاريخيَّة.
أخذت الدولة العثمانية القرار المناسب من حيث المبدأ؛ لكنه لم يكن مناسبًا من حيث طريقة التنفيذ وتوقيته! كان القرار هو إعلان الحرب على النمسا، وهو سليمٌ من حيث المبدأ؛ لأن التعدِّي النمساوي على الأرض العثمانية سافر، ولو لم يردعه العثمانيون فسوف يستمر التطاول عليهم، ولكن التوقيت لم يكن مناسبًا لأنه أُعْلِن في 6 أغسطس 1682م[15]، وهذا وقتٌ متأخِّرٌ جدًّا لحربٍ في اتِّجاه الشمال البارد. إن موسم الثلوج قد أوشك على القدوم، وتحريك قوَّاتٍ عسكريَّةٍ سيتطلَّب وقتًا طويلًا، ولا ينبغي للحركة في اتجاه النمسا أن تتأخَّر عن شهر أبريل. كان من الأولى أن يُعلن العثمانيون الحرب مبكرًا، أو يؤجِّلون الإعلان للعام القادم. لم يُحقِّق العثمانيون تقدُّمًا يُذْكَر في عام 1682م بعد الإعلان الرسمي للحرب؛ إنما انتظروا مرور الشتاء ليبدءوا حربهم ضدَّ النمسا في صيف العام القادم، 1683م[16]. هذا التنبيه المبكِّر للنمسا أعطى الإمبراطور ليوبولد الأول الفرصة لكي يستثير أوروبا، ويُكوِّن الأحلاف، التي سيكون لها دورٌ مؤثِّرٌ في الصراع المقبل. كان هذا خطأً كبيرًا من الدولة العثمانية، وسيتبعه أخطاءٌ في التحرُّكات القادمة سيكون لها أكبر الأثر على مجريات الأحداث.
هكذا سيبدأ عام 1683م بحربٍ طويلةٍ بين الدولة العثمانية والنمسا ستستمر ستَّة عشر عامًا، وسيُصاحبها عدَّة حروبٍ أخرى ضدَّ الدولة العثمانية يقوم بها الروس، والبولنديون، والبنادقة، معًا! إنها بدايات مرحلةٍ جديدةٍ في تاريخ الدولة العثمانية، والتي أسميتُها «قرن الثبات النسبي»[17].
[1] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 300.
[2]Davies, Brian: Empire and Military Revolution in Eastern Europe: Russia's Turkish Wars in the Eighteenth Century, Continuum International Publishing Group, London, UK, 2011., p. 9.
[3] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. xlviii.
[4] Davies, 2007, p. 161.
[5] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/525.
[6] Mikaberidze, Alexander (Editor): Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A).vol. 1, p. 181.
[7] Hosking, Geoffrey: Russian History: A Very Short Introduction, Oxford University Press, Oxford, UK, 2012., pp. 37-42.
[8] برون، جفري: تاريخ أوروبا الحديث، ترجمة: علي المزروقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان–الأردن، 2006م.صفحة 315.
[9] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.صفحة 33/49.
[10] فريد، 1981 صفحة 300.
[11] Kurat, A. N.: The Ottoman Empire Under Mehmed IV, In: Carsten, F. L.: The New Cambridge Modern History, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1961., vol. 5, p. 513.
[12] Szelényi, Balázs A.: The Failure of the Central European Bourgeoisie: New Perspectives on Hungarian History, Palgrave Macmillan, New York, USA, 2006., p. 71.
[13] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م.صفحة 520.
[14] Shaw, Jeffrey M. & Demy, Timothy J.: War and Religion: An Encyclopedia of Faith and Conflict, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017.vol. 1, p. 91.
[15] أوزتونا، 1988 صفحة 1/527.
[16] Overy, Richard: A History of War in 100 Battles, Oxford University Press, New York, USA, 2014., p. 57.
[17] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 701، 704.
#لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111.
التعليقات
إرسال تعليقك