التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
بعض المؤرخين يُشَكِّك في قصة أصحاب الفيل، ويدَّعي أنها رمزية، ولكن في الواقع قصة الفيل قصة صحيحة بشكل مجمل.
بعض المؤرخين يُشَكِّك في قصة أصحاب الفيل، ويدَّعي أنها رمزية، ولكن في الواقع قصة الفيل قصة صحيحة بشكل مجمل، وهي ثابتة في القرآن والسُّنَّة، وليست قصة رمزية، بل حقيقية، وهذا لا يمنع وجود بعض التفصيلات غير الدقيقة من الناحية التاريخية، لكنها حدثت بلا جدال، وتواترت الأدلة على ذلك، وهي لا تخرج عن قدرة الله في شيء.
أولًا: نزول سورة الفيل:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1 - 5]
يقول ابن عاشور: فَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَجَازِيَّةً مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ الْبَالِغِ مِنَ الْيَقِينِ حَدَّ الْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِتَوَاتُرِ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَقَاءِ بَعْضِ آثَارِ ذَلِكَ يُشَاهِدُونَهُ:
1- منها ما قالته عائشة أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: «رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ»[1].
2- ومنها ما قاله أبو صالح: "رأيت في دار أم هانئ نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة كأنها الجزع"[2]،
3- ومنها ما قاله نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدُّئَلِيَّ: رَأَيْتُ الْحَصَاةَ الَّتِي رُمِيَ بِهَا أَصْحَابُ الْفِيلِ حَصًى مِثْلُ الْحِمَّصِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْعَدَسِ حُمْرٌ مُخَتَّمَةٌ كَأَنَّهَا جَزْعُ ظِفَارٍ"[3].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَة بصرية بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَجَاوَزَ سِنُّهُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّنْ شَهِدَ حَادِثَ الْفِيلِ غُلَامًا أَوْ فَتًى مِثْلَ أَبِي قُحَافَةَ وَأَبِي طَالِبٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ[4]، وكذا حكيم بن حزام، وغيره.
وقال تعالي: ألم ترَ كيف، ولم يقل ألم ترَ إلى ما فعل، ليشير إلى الكيفية الإعجازية على غير ما عهده الناس، وجعل الفاعل في الجملة "ربك" تشريفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفت النظر إلى أن هذا الإهلاك لأصحاب الفيل إنما حدث توطئة لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا حدث في عام مولده.
وذكر الكيد، وهو التدبير الخفي، لبيان القدرة الإلهية لكشف بواطن جيش اليمن.
والطير الأبابيل هي الطيور التي تأتي في جماعات، ولم يذكر نوع الطير دلالة على كونه غير معروف عند العرب، وتفصِّل بعض الروايات في شكلها وحجمها ولونها، وهي روايات ضعيفة، والمقصود أنها في رأيي أضعف بكثير من الفيل، وقد أهلكت جيشه دلالة على القدرة، فلا داعي إذن لوصفها بأنها عملاقة كعنقاء المغرب كما ورد في بعض الروايات.
وكانت ترمي بحجارة من سجيل، أي طين وُضِع في النار حتى يبس، والسجيل أيضًا هو الشديد، وذُكِر في إهلاك قوم لوط عليه السلام، وقد حوَّلتهم إلى عصف مأكول وهو التبن، أو ورق الشجر الأخضر بعد أن تدوسه الحيوانات، دلالة على تحوُّل الجيش من حالة النضارة والقوة، إلى حالة الهشاشة والضعف.
وذكرت بعض الروايات الضعيفة أن هذه الحجارة أصابتهم بالجدري أو الحصبة، وهذا لا يمتنع، وقدرة الله بالغة، ومع ذلك فالعلامات التي وُصِفت في الجيش المهلك لا تشبه الجدري، وقد يسعى البعض إلى التمسُّك بهذه الرواية الضعيفة للخروج من فكرة المعجزة، وادِّعاء أن الأمر كان مجرَّد وباء كما يحدث في بلدان كثيرة، لكن من المؤكَّد أن الطير كانت موجهة للجيش اليمني دون غيره، ولم يُصَبْ أحدٌ من أهل مكة في هذا الإهلاك، ويفعل الله ما يشاء.
من المهم إدراك أن السورة كانت تُقْرأ في مكة، ولو كان هناك أي شكٍّ في حدوث القصة لما سكت الكفَّار، ولانتقدوا القرآن، وهذا لم يحدث.
ثانيًا: أيضًا القصة مذكورة في بعض المصادر الأجنبية النصرانية:
1- كتاب War Elephants (أفيال الحرب)
المؤلفان: John M. Kistler, Richard Lair
2- كتابAnimals in the Military:
المؤلف: John Kistler
3- تذكر دائرة المعارف الأثيوبية -باختصار- أن أبرهة بدأ حملته على مكة في عام 547م وأنه تم شحن الفيل من أثيوبيا.. ثم تذكر أن القصة وردت في القرآن في سورة الفيل وأن هزيمة أبرهة على حدود مكة كانت جزئيا نتيجة لرعب أصاب الفيل وأنه تم تسمية العام بعام الفيل.. وأنه من المحتمل أنه تم التعبير عن ذلك في لوحة موجودة في كنيسة Dabra Salam at Atsbi شمال أثيوبيا.
4- كتاب Encyclopedia of Plague and Pestilence: From Ancient Times to the Present
الكاتب: George C. Kohn (موسوعة الطاعون والوباء)
ذكر الكتاب أن الجدري حدث في الجيش مما أباده، كما هو واضح في كتابات أخرى، ثم ذكر أن كتاب المسلمين المقدَّس ذكر القصة بعد ذلك.
ثالثًا: وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل:
وردت روايات كثيرة تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وُلِد في عام الفيل، وكان العرب يؤرِّخون بالأحداث العظام، وليس عندهم تاريخ سنوي محفوظ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وُلِد النبيُّ عام الفيل"[5]، وعن قيس بن مخرمة قال: «وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، فَنَحْنُ لِدَانِ[6]، وُلِدْنَا مَوْلِدًا وَاحِدًا»[7]، وعنه أيضًا قال: ولد رسول الله عام الفيل وبين الفجار وبين الفيل عشرون سنة[8]، وعن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول للقباث بن أشيم: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله؟ فقال: بل رسول الله أكبر مني وأنا أسنُّ منه؛ وُلِد رسول الله عام الفيل وتنبَّأ على رأس الأربعين من الفيل"[9].
رابعًا: روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ..»[10].
خامسًا: وروى البخاري أيضًا عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ أن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم بَرَكَتْ بِهِ قبل مكة في رحلة الحديبية، "فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، فَأَلَحَّتْ. فَقَالُوا: "خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ" فَقَالَ النَّبِيُّ: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ[11]..
سادسًا: عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ، وَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بَعْدَهُمْ: فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا أَنِّي مِنْهُمْ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ الْحِجابَةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ السِّقَايَةَ فِيهِمْ، ونَصَرَهُمْ عَلَى الْفِيلِ، وعَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ غَيْرُهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ تَنْزِلْ فِي أَحَدٍ غَيْرِهِمْ»[12].
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش فهو فضيلة بذاتها لكمال أخلاقه، ثم أنَّ النبوة فضيلة ثانية، وثالثًا فضيلة الحجابة: أي سدانة الكعبة وحفظها، وهي لبني شيبة، ورابعًا فضيلة السقاية من زمزم وكانت للعباس من بني هاشم، وخامسًا فضيلة النصرة على أصحاب الفيل، وسادسَا فضيلة عبادة العشر سنين مقصود بها الفترة المكية منذ أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام في مكة وقبل إسلام الأنصار، وسابعًا فضيلة السورة سورة قريش.
قصة أصحاب الفيل تبدأ من اليمن:
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا ظَهَرَتِ الْحَبَشَةُ عَلَى أَرْضِ الْيَمَنِ كَانَ مُلْكُهُمْ إِلَى أَرْيَاطَ وَأَبْرَهَةَ، وَكَانَ أَرْيَاطُ فَوْقَ أَبْرَهَةَ، فَأَقَامَ أَرْيَاطُ بِالْيَمَنِ سَنَتَيْنِ فِي سُلْطَانِهِ لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ نَازَعَهُ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ الْمُلْكَ، وَكَانَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَانْحَازَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحَبَشَةِ طَائِفَةٌ، ثُمَّ سَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَكَانَ أَرْيَاطُ يَكُونُ بِصَنْعَاءَ وَمَخَالِيفِهَا، وَكَانَ أَبْرَهَةُ يَكُونُ بِالْجَنَدِ وَمَخَالِيفِهَا، فَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى أَرْيَاطَ: إِنَّكَ لَا تَصْنَعُ بِأَنْ تُلْقِيَ الْحَبَشَةَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَتُفْنِيَهَا بَيْنَنَا، فَابْرُزْ لِي، وَأَبْرُزُ لَكَ، فَأَيُّنَا مَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ جُنْدُهُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْيَاطٌ: قَدْ أَنْصَفْتَ. فَخَرَجَ أَرْيَاطُ، وَكَانَ رَجُلًا عَظِيمًا، طَوِيلًا وَسِيمًا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ، وَخَرَجَ لَهُ أَبْرَهَةُ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا، حَادِرًا لَحِيمًا دَحْدَاحًا، وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَخَلَّفَ أَبْرَهَةُ عَبْدًا لَهُ يَحْمِي ظَهْرَهُ يُقَالُ لَهُ عَتُودَةُ، فَلَمَّا دَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ رَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ، فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ يَافُوخَهُ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ، فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَعَيْنَهُ وَأَنْفَهُ وَشَفَتَيْهِ؛ فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ، وَحَمَلَ غُلَامُ أَبْرَهَةَ عَتُودَةُ عَلَى أَرْيَاطَ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ، فَزَرَقَهُ بِالْحَرْبَةِ فَقَتَلَهُ، فَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إِلَى أَبْرَهَةَ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ، وَكَانَ مَا صَنَعَ أَبْرَهَةُ مِنْ قَتْلِهِ أَرْيَاطَ بِغَيْرِ عِلْمِ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ بِأَرْضِ أُكْسُومٍ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: عَدَا عَلَى أَمِيرِي بِغَيْرِ أَمْرِي فَقَتَلَهُ؟ ثُمَّ حَلَفَ النَّجَاشِيُّ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَهُ وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ مَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ، اخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ، وَكُلُّنَا طَاعَتُهُ لَكَ، إِلَّا إِنِّي كُنْتُ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ مِنْهُ، وَأَضْبَطُ وَأَسْوَسُ لَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ، وَبَعَثْتُ بِهِ إِلَيْهِ مَعَ جِرَابٍ مِنْ تُرَابِ أَرْضِي؛ لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَيَبِرَّ بِذَلِكَ قَسَمَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَنِ اثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ، وَبَنَى أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقُلَّيْسِ[13] بِصَنْعَاءَ إِلَى جَنْبِ غُمْدَانَ كَنِيسَةً وَأَحْكَمَهَا، وَسَمَّاهَا الْقُلَّيْسَ، وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ حَاجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا"[14].
التنافس بين اليمن ومكة:
التنافس بين اليمن ومكة يمكن أن يكون تجاريًّا أو سياسيًّا، ولكنه ليس دينيًّا، فعلى الرغم من نصرانية الحبشة واليمن آنذاك، وأفضليتهم من ناحية العقيدة على العرب وقريش الوثنيين، إلا أنهم لم يقدموا من أجل هدف نصراني ديني، وإلا كان الموقف الديني معهم، فقد جاءوا لهدم الكعبة لا لتحويل الوثنيين إلى النصرانية، ولذا حاربهم الله تعالى، وانتهى الأمر بهلاك جيشهم.
اختلف العلماء حول السبب المباشر الذي حرَّك الجيوش، وهل هو تلويث أحد القرشيين لكنيسة القلَّيس، أو إحراق بعض القرشيين لكنيسة بالحبشة، وفي النهاية قرَّر أمير اليمن أبرهة الأشرم بتوجيه من النجاشي ملك الحبشة هدمَ الكعبة باستخدام جيش كبير على مقدمته فيل[15].
الجيش اليمني في مكة:
خرج أهل مكة إلى الجبال، وخرج عبد المطلب يستقبل أبرهة: وأصحُّ الروايات في ذلك جاءت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لِمَلِكِهِمْ: مَا جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا؟ أَلَا بَعَثْتَ فَنَأْتِيَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَرَدْتَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَمِنَ، فَجِئْتُ أُخِيفُ أَهْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّا نَأْتِيكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ، فَارْجِعْ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ، وَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَهُ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقَامَ عَلَى جَبَلٍ، فَقَالَ: لَا أَشْهَدُ مَهْلِكَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَهْلِهِ. ثُمَّ قَالَ:
اللهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ إِلَهٍ... حِلَالًا فَامْنَعْ حِلَالَكْ (الحِلال جمع حِلَّة، وهي هنا بمعنى القوم يحلِّون في مكان معيَّن)
لَا يَغْلِبَنَّ مِحَالُهُمْ... أَبَدًا مِحَالَكْ
اللهُمَّ فَإِنْ فَعَلْتَ... فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ[16].
موقف عبد المطلب في طلب الإبل:
برواية ابن إسحاق بدون سند، وهي عند البيهقي في دلائل النبوة[17] عن ابن إسحاق أيضًا[18].
ثُمَّ إِنَّ مُقَدَّمَاتِ أَبْرَهَةَ أَصَابَتْ نَعَمًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَتْ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَوْمِ، وَكَانَ حَاجِبُ أَبْرَهَةَ رَجُلًا مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَكَانَتْ لَهُ بِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعْرِفَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَسْتَأْذِنَ لِي عَلَى الْمَلِكِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ حَاجِبُهُ، فَقَالَ: لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ، جَاءَكَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ الَّذِي يُطْعِمُ إِنْسَهَا فِي السَّهْلِ، وَوَحْشَهَا فِي الْجَبَلِ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَنْ رَآهُ أَبُو يَكْسُومَ أَعْظَمَهُ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَنَزَلَ مِنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَجْلَسَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي مِائَتَا بَعِيرٍ أَصَابَتْهَا لِي مُقَدَّمَتُكَ. فَقَالَ أَبُو يَكْسُومَ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُكَ فَأَعْجَبْتَنِي، ثُمَّ تَكَلَّمْتَ فَزَهِدْتُ فِيكَ. فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ أَيُّهَا الْمَلِكُ؟ قَالَ: لِأَنِّي جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ مَنَعَتُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَفَضْلُكُمْ فِي النَّاسِ، وَشَرَفُكُمْ عَلَيْهِمْ، وَدِينُكُمُ الَّذِي تَعْبُدُونَ، فَجِئْتُ لِأَكْسِرَهُ، وَأُصِيبَتْ لَكَ مِائَتَا بَعِيرٍ، فَسَأَلْتُكَ عَنْ حَاجَتِكَ، فَكَلَّمْتَنِي في إبلك، وَلَمْ تَطْلُبْ إِلَيَّ فِي بَيْتِكُمْ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّمَا أُكَلِّمُكَ فِي مَالِي، وَلِهَذَا الْبَيْتِ رَبٌّ هُوَ يَمْنَعُهُ، لَسْتُ أَنَا مِنْهُ فِي شَيْءٍ. فَرَاعَ ذَلِكَ أَبَا يَكْسُومَ وَأَمَرَ بِرَدِّ إِبِلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَيْهِ.
تعليق على موقف عبد المطلب: (إنْ صحَّ)
كنت قد انتقدت موقف عبد المطلب قبل ذلك، وذكرت أن الواجب هو الدفاع عن البيت الحرام، ولكن في الواقع أن ما فعله عبد المطلب هو الصواب، فأهل مكة جميعًا لا طاقة لهم بجيش جرَّار كجيش أبرهة، ومن ثم طلب الإبل المنهوبة يعتبر أمرًا مناسبًا، خاصَّة أنه أوصل رسالة إلى أبرهة تلفت نظره إلى قيمة الكعبة، وقدرة الربِّ الذي عظَّمها، وقد أثَّرت هذه الرسالة في أبرهة فردَّ الإبل إلى عبد المطلب، وكان في مقدوره أخذها.
وعند ابن إسحاق أيضًا بالسند الضعيف نفسه: "فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وهُذَيل ومن كان بذلك الحرم بِقِتَالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ به، فتركوا ذلك".
الجيش في وادي مُحَسِّر:
هذا الوادي بين مزدلفة ومنى، ويقال إن الجيش مرَّ به، فحُصِر فيه، وأُعْيِي الجيش أي أصيب في هذا الوادي، وبعض المؤرِّخين يرى أن الجيش لم يدخل حرم مكة أصلًا، ومن المعلوم أن السُّنَّة هو الإسراع قليلًا في السير في هذا الوادي، ولكنَّ العلماء مختلفون في بيان السبب، وهل هو إهلاك أصحاب الفيل، أم هلاك رجل اصطاد فيه، أو لأنه كان موقفًا للنصارى، أو غير ذلك، وقد عرض بدر الدين العيني هذه الآراء في عمدة القاري، وكأنه رجَّح حصر أصحاب الفيل فيه[19].
وفي رواية ابن عباس الصحيحة: فَأَقْبَلَتْ مِثْلُ السَّحَابَةِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلُ الَّتِي قَالَ اللهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قَالَ: فَجَعَلَ الْفِيلُ يَعُجُّ عَجًّا[20]فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[21].[22].
[1] الأزرقي: أخبار مكة، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، الناشر: دار الأندلس للنشر، بيروت، 1/228-229، وقال دهيش: إسناده حسن.
[2] الماوردي: النكت والعيون، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 6/ 343.
[3] أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة، حققه: الدكتور محمد رواس قلعه جي، عبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، الطبعة: الثانية، 1406هـ- 1986م، ص150.
[4] ابن عاشور: التحرير والتنوير، دار التونسية للنشر، تونس، 1984مـ، 30/ 545.
[5] المستدرك (4180). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وتعليق الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والطبراني: المعجم الكبير (12432).
[6] قال ابن الأثير في "النهاية" 4/246: في الحديث: "أنا لِدَةُ رسول الله"، أي: تربه، يقال: ولدت المرأة ولادًا وولادةَ، ولدةَ فسُمي بالمصدر، وأصله: وِلْدَة، فعُوضَت الهاء من الواو، وجمع اللدة: لِدات.
[7] مسند أحمد - طبعة مؤسسة قرطبة (17922) 4/ 215 (واللفظ له). قال الأرناءوط: حديث حسن وهذا إسناد ضعيف من أجل المطلب بن عبد الله فلم يرو عنه غير ابن إسحاق. والحاكم: المستدرك (4183). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والترمذي (3619).
[8] الطبراني: المعجم الكبير (872)، وقال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ جَعْفَرُ بْنُ مِهْرَانَ السَّبَّاكُ وَقَدْ وُثِّقَ وَفِيهِ كَلَامٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 257).
[9] المستدرك (6624)، وانظر: (4213).
[10] البخاري: كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة (2302). ومسلم: كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1355).
[11] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).
[12] الطبراني: المعجم الكبير (994)، والحاكم: المستدرك (6877)، وقال الألباني: (حسن). انظر صحيح الجامع (4209).
[13] القلَّيس: بيعة كانت بصنعاء للحبشة بناها أبرهة وهدمها حمير. انظر: «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (3/ 966).
[14] الأزرقي: أخبار مكة، 1/ 211-213، وقال دهيش: إسناده حسن.
[15] الماوردي: النكت والعيون، 6/338- 340.
[16] الحاكم (3974)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. والبيهقي: دلائل النبوة، 1/ 121.
[17] البيهقي: دلائل النبوة، 1/ 119.
[18] ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني: انظر: سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1398هـ=1978م، ص61-64.
[19] بدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 10/ 16.
[20] يعجُّ أي يرفع صوته.
[21] الحاكم (3974)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. والبيهقي: دلائل النبوة، 1/ 121.
[22] لمشاهدة الحلقات على اليوتيوب اضغط هنا: قصة أصحاب الفيل: حقيقة أم أسطورة؟ - تفاصيل قصة الفيل
التعليقات
إرسال تعليقك