الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الأمة المسلمة لم تترك أمر الشريعة للحكومة وحدها؛ بل جاهدت في مجال نشر الإسلام الصحيح، ومقاومة البدع الفكرية الوافدة ، كيف حدث ذلك؟ مقال للدكتور عبد
مع وجود الإيجابيات التي قام بها جهاز الدولة في التاريخ الإسلامي، فإن الأمة المسلمة - كعادتها - لم تترك أمر الشريعة للحكومة وحدها؛ بل جاهدت في مجال نشر الإسلام الصحيح، ومقاومة البدع الفكرية الوافدة، واللصوص والمفسدين؛ الذين انتهزوا فرصة الصراع على الحكم في الدولة، وعاثوا في البلاد الفساد!! ويحدثنا التاريخ في هذه الفترة عن حركة من هذه الحركات الإصلاحية الشعبية الرائعة.
فقد اشتهر أحمد بن نصر الخزاعي بأنه كان عالمًا ومعلمًا في بغداد، خصوصًا أيام المأمون حينما برزت الفتنة، وبدأ المعتزلة ينشرون آراءهم القائلة بخلق القرآن، فكان الخزاعي من أشهر من وقف في هذه الأزمة، وكان لأسرته مكانة خاصة لدى العباسيين؛ نظرا لمكانة جده؛ حيث كان أحد النقباء للدعوة العباسية، وبالتالي فقد كان أحمد بن نصر من أهل الوجاهة والرياسة في بغداد، كما صرح بذلك ابن كثير[1]، وقد كان ابتداء شهرته في بغداد سنة (201هـ)، بعد قتل الأمين ببغداد سنة (198ه = 813م)، وبقيت بغداد مسرحًا للنهب وللسلب؛ حيث تأخر المأمون بخراسان، واضطربت أحوال بغداد، وكثر فيها اللصوص والدعارة، وأهل الفساد، فاجتمع حوله جماعة من الناس بايعوه، وأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكان أتباعه يستمعون لأوامره، وبالتالي ساعد على ضبط الأمور في شرق بغداد، إلى أن قدم المأمون إلى بغداد سنة (204هـ)[2]، فاختفى الخزاعي عندئذ، وذكر المؤرخون أن الخزاعي، وسهل بن سلامة كانا يتعاونان على هذا الأمر[3]، وقد استمرت دعوة الخزاعي ما بين (201- 231هـ) أي ثلاثة عقود.
ويصور الطبري حركة الخزاعي الدعوية الإصلاحية؛ عندما يؤرخ لسنة (201هـ) فيقول: في هذه السنة تجردت المتطوعة للنكير على الفساق ببغداد... وكان السبب في ذلك فساق الحربية والشطار؛ الذين كانوا ببغداد والكرخ، فآذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق، وقطع الطريق، وأخذوا الغلمان والنساء علانية من الطرق... فلما رأى الناس ذلك وما قد أظهروا من الفساد في الأرض، والظلم والبغي، وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.
وقد قام رجال من أهل بغداد بالدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتبايعوا على ذلك، وأخذوا يشجعون الناس على التعاون، والتكاتف لصد أولئك المفسدين، ومنعهم من الاختباء، وقد كانت هذه الحركة الشعبية عامة وشاملة، دخل فيها الكثير من الناس، وكانت منظمة؛ بحيث يسجل فيها اسم من يريد التعاون معها ضد الفساق؛ الذين كانوا يعبثون فسادا في بغداد، وقد تمكنت هذه الحركة -بانتظام ودقة- من العمل على منع اللصوص من العبث ببغداد وبأهلها، وأوقفوا ما كان يدفعه الناس من أموال لهؤلاء المفسدين مقابل عدم الاعتداء عليهم.
ويدل على تنظيم هذا العمل ودقته، ما ذكره الطبري من أن رؤساء هذه الحركة قد جعلوا لها دواوين يسجل فيها اسم من بايع على العمل معهم[4].
فلما انتهت الفتنة بين المأمون والأمين، وعادت للحكومة هيبتها، وعاد لها سلطانها توقفت الحركة، وتركت الأمور لذويها من أهل الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البداية والنهاية: حوادث سنة (202هـ).
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، (حوادث سنة 204هـ).
[3] الطبري: المكان السابق، ابن كثير: البداية والنهاية، (حوادث سنة 202هـ).
[4] الطبري: حوادث سنة ( 201هـ )، وما بعدها.
التعليقات
إرسال تعليقك