التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
صعد السلطان إبراهيم إلى عرش الدولة العثمانية سنة 1640م، وشاء الله أن يكون هو الأصل لكل من حكم الدولة العثمانية إلى أوائل القرن العشرين.
السلطان إبراهيم (1640-1648م)
ابتُلي السلطان مراد الرابع بوفاة أولاده الذكور في حياته! كان له من الأولاد أحد عشر، ماتوا جميعًا في فترة حكمه[1]. وبمعرفة أن إخوته جميعًا ماتوا (قُتِلوا) كذلك في حياته باستثناء الأخ الأصغر إبراهيم[2] (عمره 24 سنة تقريبًا الآن)[3] ندرك أن هذا الأخير كان الوحيد المتبقِّي من السلالة العثمانية على وجه الأرض[4]! ولو لم يكن موجودًا لكانت نهاية الدولة العثمانية تاريخيًّا في عام 1640م؛ لكن شاء الله أن يُبْقِي هذا الرجل ليكون هو الأصل لكلِّ مَنْ حكم الدولة العثمانية إلى أوائل القرن العشرين، وليمتد عمر الدولة قرابة ثلاثة قرونٍ أخرى!
اختلف المؤرِّخون حول مدى صحَّة القوى العقليَّة لهذا السلطان، فمِن قائل إنه مريضٌ بالجنون إلى الدرجة التي لُقِّب فيها بالمجنون Ibrahim the Mad[5]، إلى مَنْ أزال عنه صفة الجنون بالكلِّيَّة[6]؛ ولكنه في كلِّ الأحوال لم يكن شخصيَّةً لامعة. قضى السلطان طفولته وشبابه محبوسًا في القصر القديم، في تحديدٍ جبريٍّ لإقامته فرضه عليه أخوه مراد الرابع[7]، كما قضى السنوات الخمس الأخيرة مرعوبًا من تلقِّي مصير القتل الذي تعرَّض له إخوته. لا شَكَّ أن هذه الحياة أثَّرت على سلوكه وشخصيَّته، كما أنها أفقدته القدرة على التحصيل والمعرفة، فضلًا عن الغياب الكلي للخبرة. هكذا استلم رجلٌ لا علم له بالسياسة حكمَ دولةٍ عملاقةٍ كالدولة العثمانية!
ازداد الوضع سوءًا بإضافة أمرين؛ الأول هو عودة السلطانة قُسِم مرَّةً أخرى للظهور على المسرح السياسي بعد اعتلاء السلطان الضعيف إبراهيم للحكم، مع كلِّ الأضرار التي يمكن أن تلحق بالدولة نتيجة عودة «سلطنة النساء» للحكم بعد أن كان مراد الرابع قد عطَّلها في عام 1632م، والثاني هو أن السلطان إبراهيم كان هو الوحيد المتبقِّي من السلالة العثمانية، ولم يكن له أولادٌ بعد، ولو مات هكذا بلا عقب انقرضت السلالة، فدفع هذا أمَّه قُسِم إلى ملء حياته بالنساء طمعًا في كثرة الإنجاب[8]، وقد تحقَّق مرادها وأنجب كثيرًا[9]؛ ولكنه -على الرغم من رغبته في إدارة الأمور بنفسه، والسعي لاكتساب الخبرة- التهى بالنساء الجميلات، حتى أنفق عليهنَّ جانبًا ضخمًا من ميزانيَّة الدولة[10]، وصارت مجالسه في قصر الحريم أكثر من مجالسه في ديوان الحكم!
استقرار الدولة العثمانية في السنوات الأربع الأولى: (1640-1644م)
مع هذه الظروف الخطرة إلا أن السنوات الأربع الأولى من حكم السلطان لم تشهد تأثُّرًا في مسار الدولة؛ بل ظلَّ الأمن مستتبًّا؛ كما كان في أيام مراد الرابع، ويرجع ذلك إلى أمرين؛ الأول هو قوَّة النظام الذي تركه السلطان الراحل، فكانت له ذاتيَّةٌ تسمح له بالاستمرار، والثاني هو وجود شخصيَّةٍ متميِّزةٍ في مركز الصدارة العظمى هو كيمنكش قرة مصطفى باشا Kemankeş Kara Mustafa Pasha (كيمنكش كلمة تركيَّة تعني رامي السهام، وكان قرة مصطفى من أمهر الرماة[11]). اختلف المؤرِّخون كذلك على وصف أمانة هذا الصدر الأعظم[12]؛ ولكن المتَّفق عليه أنه كان سياسيًّا قديرًا محترفًا، وصاحب شخصيَّة كاريزميَّة قياديَّة متميِّزة، فأسهم ذلك في تسيير الأمور بشكلٍ جيِّد.
شهدت السنوات الأربع الأولى من حكم السلطان إبراهيم إلى جانب الهدوء والاستقرار بعض النجاحات الجيِّدة؛ مثل تجديد معاهدة السلام مع النمسا في 1642م، واسترداد ميناء آزوڤ من الأوكرانيين في السنة نفسها، كذلك على المستوى الداخلي سعى الصدر الأعظم إلى تحسين ميزانيَّة الدولة عن طريق إقصاء عددٍ كبيرٍ من العِمالة غير الفعَّالة التي أضافها النظام الفاسد في العقود الأخيرة، ومنها أعدادٌ كبيرةٌ من الإنكشاريَّة الذين يُرْهِقون الميزانيَّة بأجورهم دون عمل.
نجحت إجراءات الصدر الأعظم في تحسين قيمة العملة العثمانية، وخفض الأسعار، وزيادة الاستقرار[13]؛ ولكنها في الوقت نفسه خلقت له مزيدًا من الأعداء والخصوم، خاصَّةً في داخل القصر الحاكم، وفي قيادات الإنكشارية. سرعان ما حيكت المؤامرات في القصر والديوان لإقصاء الصدر الأعظم عن المنصب، انتهى الأمر بوشايةٍ قادت إلى إعدامه في 31 يناير 1644م[14].
هذا القرار الطائش من السلطان كان نقطة تحوُّل في مسار الدولة في هذه المرحلة التاريخيَّة؛ حيث دخلت في اضطرابات ستستمر اثني عشر عامًا؛ أي إلى عام 1656م! يكفي للدلالة على غياب شخصيَّةٍ مماثلةٍ لهذا الرجل أن نعلم أن عدد مَنْ شغل هذا المنصب في خلال هذه الاثني عشر سنةً كان ثمانية عشر صدرًا أعظم، بمتوسِّط ولاية قدرها ثمانية شهور فقط! ممَّا يدل على حالة عدم الاستقرار التي دخلتها البلاد. وما يقال على منصب الصدر الأعظم يقال كذلك على المناصب الكبرى الأخرى في الدولة؛ ففي هذه الفترة المحدودة تغيَّر منصب شيخ الإسلام اثنتي عشرة مرَّة، ومنصب قائد البحرية ثماني عشرة مرَّة، ووزير الماليَّة ثلاثًا وعشرين مرَّة، هذا فضلًا عن التغير السريع كذلك في مناصب الولايات والأقاليم[15].
قد يتعجب القارئ من هذا الانحدار لمجرَّد تغيير منصبٍ واحدٍ في الدولة؛ ولكن الواقع أن الحدث كان كالقشَّة التي قصمت ظهر البعير. لقد كان حِمْلُ الدولة العثمانية ثقيلًا في هذه المرحلة، وتأتي مثل هذه الأحداث -التي قد تبدو تافهة، أو عابرة- فينكشف المستور، وتظهر أمراض الدولة بوضوح. ينبغي أن ندرك أننا في منتصف القرن السابع عشر، ولسنا في الزمن الأوَّل للعثمانيين. إن إصلاحات السلطان الراحل مراد الرابع -على أهميَّتها- لم تكن إصلاحاتٍ جذريَّة؛ إنما يغلب عليها الطابع الشكلي المرتبط بشخصه لا بالنظام، فكانت بذلك مُسَكِّنةً لآلام الدولة العثمانية، وليست معالجةً لأسباب الأمراض؛ ومِنْ ثَمَّ كان إعدام رجل النظام القديم كيمنكش قرة مصطفى كاشفًا لحقيقة الوضع الذي عليه الدولة. يُضاف إلى هذا حقيقة أن قرة مصطفى كان قويًّا في تخصُّصه، فحتى لو افتقر إلى الأمانة نسبيًّا فإنه يمكن أن يكون ناجحًا في الوصول بالدولة إلى الأفضل، ولقد قدَّم الله U صفة القوَّة على صفة الأمانة عند تبيين معايير التعيين في وظيفة؛ فقال: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26]. المشكلة الأكبر في الدولة العثمانية في الفترة التي أعقبت إعدام قرة مصطفى أنها عزلت الذي يُشَكُّ في أنه فاقدٌ للأمانة، وأتت بالذين يفتقرون -بالتأكيد- إلى القوَّة والأمانة معًا!
يمكن أن نرصد في هذه الفترة مشكلة توسيد الأمر لغير أهله بوضوح. انتشرت الرشوة، وصارت الوظائف الكبرى تُشترى بشكلٍ بارز[16]. كثر التنافس على قيادة بعض الولايات، وخاصَّةً الغنيَّة منها كمصر، وكثر التلاعب بالأوقاف. كان هناك انخفاضٌ جليٌّ في مستوى العلماء، وللأسف اشتركوا في تكوين الأحزاب المتنافسة على الولايات، وبالتالي انخفضت هيبتهم، وقلَّ تأثيرهم على الحكومة والشعب. تعدَّدت موازين القوى بشكلٍ خطر، وكثرت الإقطاعيًّات، وزاد نفوذ الأعيان، وصارت بعض المناطق في الدولة كأنها مستقلةٌ عنها، وخاصَّةً في الولايات البعيدة عن إسطنبول. تجمَّد القانون، وصار غير متوائمٍ مع حركة المجتمع والدولة.
ومع ذلك فعلى المستوى الدولي كان الوضع مستقرًّا إلى حدٍّ كبير. كانت أوروبا غارقةً في حرب الثلاثين عامًا، وبذلك فهي ترضى من الدولة العثمانية بالسكون. العلاقات التجارية مع إنجلترا وهولندا كانت جيِّدة، أمَّا البندقية فكانت شريكًا دائمًا للتجارة العثمانية، إلا أن هذا سيتغيَّر في عام 1645م. كانت العلاقات قد بدأت تفتر مع فرنسا، وستزداد فتورًا في العقود التالية؛ وذلك منذ ولاية الملك الكبير لويس الرابع عشر Louis XIV، الذي سيحكم فترة طويلة جدًّا؛ 72 سنة (وهي أطول فترة لحاكم أوروبي في التاريخ)، وسيسعى لإعطاء فرنسا مكانةً قياديَّةً في أوروبا، ولن يكون مناسبًا لقيادة النصارى أن تكون متحالفةً مع الدولة العثمانية المسلمة؛ ومع ذلك ففرنسا لم تكن مؤثِّرةً سلبًا على العثمانيين في هذه الفترة لانشغالها بحرب الثلاثين عامًا، ثم بالحرب الدينيَّة الأهليَّة في أرضها. أمَّا الدولة الصفوية فقد ازدادت ضعفًا بموت الشاه الضعيف صافي، وولاية الأضعف، الطفل عباس الثاني، في 1642م[17]. هكذا كانت الظروف العالمية المواتية سببًا في استقرار العلاقات الدولية العثمانية بشكلٍ كبيرٍ في هذه المرحلة على الرغم من عدم الاستقرار الداخلي.
كانت النتيجة المباشرة لإعدام الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا هي عودة السلطانة قُسِم للظهور السياسي، وكذلك تعيين المتآمرين عليه في مناصب مهمَّة في الدولة. لم يستطع السلطان إبراهيم -على الرغم من ضيقه- منع أمِّه من التدخل في السياسة؛ ومِنْ ثَمَّ بدأ تكوين الأحزاب المتعارضة الباحثة عن الأعوان من كبار رجال الدولة، والإنكشاريِّين، والعلماء، ومراكز القوى المختلفة[18]. هكذا بدأ الدخول في بوادر حربٍ أهليَّة. في ظلِّ هذا التوتر الداخلي وصلت الأخبار السيِّئة بحدوث أزمةٍ بحريَّةٍ كبرى في البحر المتوسط!
بدء الحرب العثمانية البندقية الطويلة (حرب كريت): (1645-1669م)
في 28 سبتمبر 1644م تمكَّن فرسان القديس يوحنا من السطو على سفينةٍ عثمانيَّةٍ مهمَّة[19] كانت متَّجهةً من إسطنبول إلى الإسكندرية، وكانت تحمل عددًا كبيرًا من رجال الدولة، بالإضافة إلى التجار، وبعض المسافرين للحج. قُتِل في الهجوم عددٌ كبيرٌ من العثمانيين، ثم سحب فرسان القديس يوحنا السفينة إلى جزيرة كريت -التابعة آنذاك للبنادقة- وباعوا هناك ثلاثمائة وخمسين رجلًا، بالإضافة إلى ثلاثين امرأة، كعبيدٍ للتجار الأوروبيين[20]. كان الخبر صادمًا في الديوان العثماني! كان الأمر يتطلب حربًا دون جدال؛ سواءٌ ضدَّ مالطة، وهي مقرُّ فرسان القديس يوحنا، أم ضدَّ كريت؛ حيث البنادقة المتعاونين مع الفرسان، أو ضدَّهما معًا. كانت الحرب ضدَّ مالطة صعبةً للغاية؛ لشدَّة حصانة الجزيرة، ولبُعْدِها، وقد فشل العثمانيون قبل ذلك في فتحها مرَّتين، أمَّا كريت فهي -على حصانتها- أقلُّ وطأةً من مالطة، وهي قريبةٌ جدًّا من الأناضول، وهي الجزيرة المهمَّة الوحيدة في شرق البحر المتوسط التي لا تتبع العثمانيين[21]، ولهذا كان قرار الديوان هو غزو كريت لا مالطة.
كانت جزيرة كريت هي آخر ما تبقى من أملاك للبنادقة في البحر المتوسط، وكانت تعتمد عليها كمركز لتجارتها الواسعة مع الشرق. كان الظرف مواتيًا نسبيًّا لفتح الجزيرة لانشغال أوروبا بحرب الثلاثين عامًا؛ ومِنْ ثَمَّ لا يُنتظر من الدول الأوروبية أن تساعد البندقية، التي كانت بدورها في مرحلة أفول، ولم يعد أسطولها كحالته الأولى في القرون الماضية. كان العامل المضاد لفكرة الفتح هو حالة الاضطراب الداخلي التي كانت عليها البلاد بعد إعدام الصدر الأعظم، وبوادر الحرب الأهليَّة. -أيضًا- لم يكن الأسطول العثماني في جاهزيَّته المعهودة. بقياس المصالح والمفاسد أخذ الديوان -بموافقة السلطان، ومعارضة الصدر الأعظم- قرار الغزو، والذي تأخَّر تنفيذه إلى صيف عام 1645م، لعدم القدرة على القيام بعمليَّات بحريَّة في الشتاء، بالإضافة إلى المباحثات الدبلوماسيَّة الحثيثة التي قامت بها البندقية لمنع الحرب؛ ولكن دون جدوى[22].
تحرَّك أسطولٌ عثمانيٌّ كبيرٌ إلى جزيرة كريت تحت قيادة قائد البحريَّة يوسف باشا (خريطة رقم 30)، وكان الأسطول يضمُّ أكثر من أربعمائة سفينة، ويحمل واحدًا وسبعين ألف جندي[23]، واختار أن يهاجم غربها أولًا. تمَّ الإنزال العسكري للجنود في 23 يونيو 1645 غرب مدينة خانيه Canea، وهي ثاني أهم المدن في الجزيرة بعد العاصمة كانديا Candia. حوصرت المدينة، وبعد مقاومةٍ شديدة، سقطت في يد الجيش العثماني في 22 أغسطس. في سبتمبر وصلت مساعداتٍ محدودةً للبنادقة من البابا، وفرسان القديس يوحنا، ونابولي؛ لكنَّها لم تكن قادرة على تغيير الموقف، فانسحبت إلى قواعدها بعد حربٍ قصيرةٍ في أول أكتوبر[24].
هكذا سيطر العثمانيون على غرب جزيرة كريت؛ ولكن دخول الشتاء، وحصانة مدينة كانديا، دفعت الأسطول العثماني إلى العودة المؤقتة إلى إسطنبول لقضاء الشتاء، مع ترك حاميةٍ للدفاع عن الأجزاء المفتوحة من الجزيرة. ومع أن الحملة حقَّقت نجاحًا جزئيًّا إلا أن السلطان تعامل مع الموقف بعشوائيَّته المضطربة، فأعدم قائد الحملة، بل قائد البحريَّة كلِّها، يوسف باشا لتقصيره في فتحِ كاملِ الجزيرة[25]!
أدركت البندقية أنها لن تقدر على مواجهة الأسطول العثماني الكبير في حربٍ شاملةٍ في البحر، كما أنها بالإمكانات المحدودة التي معها لن تقدر على الصمود في كريت طويلًا، خاصَّةً أن استغاثتها بالأوروبيين وجدت آذانًا صُمًّا، باستثناء البابا المتحمِّس لحرب المسلمين. لهذا قرَّرت البندقية تغيير استراتيجيَّتها في الحرب؛ وذلك بمحاولة التضييق على الدولة العثمانية بغلق مضيق الدردنيل المهم، فتُحقِّق بذلك عدَّة مصالح في وقتٍ واحد؛ فهي أولًا ستمنع الإمدادات المستمرَّة المتَّجهة من إسطنبول إلى كريت، فتُخَفِّف الضغط عليها، وثانيًا ستمنع الحركة التجاريَّة خلال المضيق؛ ممَّا سيُؤثِّر على اقتصاد الدولة العثمانية فتقبل بالمفاوضات، وثالثًا ستؤدِّي إلى حالةٍ من التذمُّر الشعبي نتيجة توقُّف التجارة، وعدم الأمان في حركة الناس، وهذا التذمُّر، في وجود الاضطراب الداخلي المعروف، قد يُؤدِّي إلى الضغط على الحكومة، فتقلع عن الحرب.
بدأت البندقية في تنفيذ خطَّتها في ربيع 1646م، وبعد موقعةٍ عنيفةٍ في 26 مايو استطاعت السيطرة على جزيرة تينيدوس Tenedos المهمَّة في مدخل الدردنيل. كان هذا نجاحًا مهمًّا للبنادقة؛ ومع ذلك لم يكن كاملًا؛ حيث لم يستطع الأسطول البندقي منع المساعدات العسكريَّة التي خرجت بعد عشرة أيام من إسطنبول إلى كريت. بدأ العثمانيون نشاطهم في جزيرة كريت بحصار مدينة ريتيمو Rettimo (الآن ريثيمنو Rethymno)، وهي ثالث المدن أهميَّة بعد كانديا، وخانيه. بعد مقاومةٍ شرسةٍ استطاع الجيش العثماني إسقاط المدينة في 20 أكتوبر، ثم قلعتها في 13 نوفمبر[26].
لم تتم عمليَّاتٌ عسكريَّةٌ بعد ذلك لمدَّة سبعة شهور لتفشِّي الطاعون في الطرفين. كان الطاعون شديدًا، حتى وصل عدد الموتى من العثمانيين إلى أربعةٍ وأربعين ألفًا، ممَّا حدا بالغربيين إلى تسمية كريت «بمقبرة المسلمين»، خاصَّةً مع العدد الكبير الذي سيُفْقَد في الجزيرة لاحقًا في مراحل الفتح المختلفة[27]! لم يقترب العثمانيون حتى هذه اللحظة من كانديا، وهي أحصن مدينةٍ في الجزيرة.
تفاقم الاضطرابات في إسطنبول، واستمرار حرب كريت: (1647-1648م)
كان عام 1647م عصيبًا على الدولة العثمانية، وخاصَّةً إسطنبول. حدث إغلاقٌ بندقيٌّ شبه كاملٍ لمضيق الدردنيل؛ ممَّا ضيَّق على الناس حياتهم، ورفع حالة التذمُّر. مع ذلك استطاع الأسطول العثماني في يونيو من هذه السنة السيطرة على معظم شرق جزيرة كريت. لمواجهة تكاليف الحرب، وللإنفاق على بذخ السلطان مع حريمه، فُرِضَت ضرائب جديدة على الشعب؛ ممَّا زاد التذمُّر[28]. أدَّت هذه الممارسات إلى تدبير محاولة انقلابٍ على السلطان اشترك فيها الصدر الأعظم آنذاك، صالح باشا، وشيخ الإسلام عبد الرحيم أفندي، مع السلطانة الوالدة قُسِم[29]! كانت قُسِم تهدف إلى خلع ابنها وتنصيب حفيدها الطفل محمد بن إبراهيم لتحكم من خلاله بصورةٍ أقوى! من المؤكَّد أن عقولنا لا تستوعب هذه الطريقة في التفكير عند هذه المرأة التي لم يعد عندها من عواطف الأمهات شيء! ولكن الواقع أن طول المكث في كرسي الحكم يُغيِّر طبائع الناس، فلا تُصبح اختياراتهم أو قراراتهم منطلقةً من الطبائع العاديَّة للبشر؛ إنما يتصرَّفون كخَلْقٍ آخر بلا قلبٍ أو عاطفة، وراجعوا حوادث الاغتيال والقتل الكثيرة للآباء، والأبناء، والأخوة، التي رأيناها في القصَّة العثمانية. فَشِل انقلاب 1647م، وأُعْدِم الصدر الأعظم صالح باشا في 16 سبتمبر، وعُيِّن مكانه أحمد باشا[30]، وتمَّت مواجهةٌ عنيفةٌ بين السلطان إبراهيم وأمِّه قُسِم، كان من نتيجتها إقصاء الأم عن السياسة، وعزلها في القصر القديم[31]!
على الرغم من هذه التطوُّرات المخيفة كانت الدولة العثمانية قادرةً على استكمال عمليَّاتها العسكريَّة في كريت. نعم لو كان حدث هذا الحصار في زمان الأوائل لما أخذ كلَّ هذا الوقت، خاصَّةً مع ضعف البنادقة الحالي، وانشغال أوروبا؛ لكن الاستمرار العثماني في حرب كريت مع كلِّ التقلُّبات السياسيَّة في الدولة أمرٌ لافتٌ للنظر، وهو يُؤكِّد على صفة «الثبات» التي اخترناها لتوصيف هذا القرن بكامله، فعوامل الضعف الكبرى كانت مصحوبةً بعوامل قوَّةٍ مماثلة، ولهذا حدثت هذه المشاهدات. في مايو 1648م، وفي أثناء الأزمة الداخليَّة الطاحنة، وفي ظلِّ تمرُّداتٍ خطرةٍ قام بها الإنكشاريَّة في إسطنبول، بدأ الجيش العثماني في حصار كانديا (الآن هيراكليون Heraklion)، وهي كما ذكرنا أحصن مدينة في كريت. هذا الحصار سيكون ثاني أطول حصارٍ في التاريخ كلِّه؛ حيث سيستمر إلى عام 1669م؛ أي إحدى وعشرين سنة! (أطول حصار في التاريخ هو حصار المغاربة لمدينة سبتة المحتلَّة من إسبانيا، واستمر ثلاثة وثلاثين سنة، من 1694 إلى 1727م، ولم يؤدِ إلى نتيجة[32]!).
ازداد الوضع سوءًا في إسطنبول. ثار الإنكشارية لتدنِّي قيمة العملة، ولفرض ضرائب عليهم. ازدادت سفاهة السلطان والتهاؤه بحريمه فكان يستورد لهم الفرو باهظ الثمن من روسيا بكمِّيَّاتٍ ضخمة ممَّا أرهق ميزانيَّة الدولة[33]، ووصل الأمر إلى تسمية عصره من قِبَل بعض المؤرِّخين «بعصر الفرو»[34]! في النهاية أرغم الإنكشاريةُ السلطانَ على عزل الصدر الأعظم أحمد باشا، وتعيين أحد الموالين لهم، وهو محمد باشا الصوفي. على الرغم من قبول السلطان بعزل الصدر الأعظم فإن الإنكشارية استمروا في تمرُّدهم، واستصدروا فتوى بخلع السلطان! خافت السلطانة قُسِم أن يُعْزَل السلطان إبراهيم، فيتولى ابنه الصغير محمد الحكمَ تحت رعاية أمِّه خديجة، فتخرج بذلك من الصورة كلِّيًّا، ولذلك قامت بدعم التمرُّد على ابنها بحجَّة أن الحكم قد يضيع بالكلِّيَّة إذا تم قتله وقتلها[35]. حاصر المتمرِّدون القصر الحاكم في 8 أغسطس 1648م، وقاموا بخنق الصدر الأعظم المعزول أحمد باشا لأنه موالٍ للسلطان، ثم قطَّعوه إربًا بسيوفهم. قُبِض في اليوم نفسه على السلطان إبراهيم وحبسه[36]. جاء المتمرِّدون بالطفل محمد ابن السلطان المخلوع ونصَّبوه على العرش، وهو في السادسة من عمره، تحت اسم محمد الرابع، تحت وصاية جدَّته السلطانة قُسِم[37]؛ وذلك على الرغم من وجود والدته السلطانة خديجة تورهان Turhan Hatice Sultan (تورهان لقب يعني الرحيمة)، وكانت على خلافٍ كبيرٍ مع الجدَّة القويَّة، وهذا التجاوز لوالدة السلطان سيخلق عداواتٍ مميتةً في الدولة.
قتل السلطان إبراهيم، ونظرة إجمالية على عهده:
لم يطمئن المتمرِّدون إلى خلع السلطان مع بقائه حيًّا؛ لذلك قاموا بإعدامه بعد عشرة أيَّامٍ من خلعه[38]، في 18 أغسطس 1648م[39]، ليكون ثاني السلاطين العثمانيِّين الذين يتعرَّضون للقتل إِثْر تمرُّد بعد السلطان عثمان الثاني المقتول عام 1622م. تُشير بعض الروايات أن هذا القتل تمَّ بموافقة «الأم» قُسِم[40][41]!
لم يكن السلطان إبراهيم جديرًا بالحكم، ولم يملك من أمره شيئًا، وكان طائعًا في جزءٍ من حياته لصدره الأعظم كيمنكش قرة مصطفى باشا، وفي جزءٍ ثانٍ لأمِّه قُسِم، وفي جزءٍ ثالث للإنكشارية! يعتبر بعض المؤرخين أن هذا السلطان هو أقلُّ سلاطين الدولة العثمانية كلها حكمةً وقدرةً على الحكم، ولذلك حرص كلِّ السلاطين بعده على النفور من اسم «إبراهيم» فلا يُطلقونه على أبنائهم أبدًا[42]، ولذلك لا يوجد «إبراهيم الثاني»، بينما يتكرَّر محمد، ومراد، وعثمان، وسليمان.
وعلى الرغم من الاضطرابات المهولة التي حدثت في عهد هذا السلطان الضعيف فإن الدولة لم تتأثَّر سلبًا بشكلٍ عام! كانت المنافسات التي تجري على الحكم كأنها داخل حدود القصر فقط! ظلت الدولة متماسكة، ولم تفقد شيئًا من أملاكها. حقَّقت الدولة انتصاراتٍ على البندقية، وضمَّت أجزاءً من كريت إلى حوزتها. كانت العلاقات التجاريَّة والدبلوماسيَّة مع أوروبا وإيران على وضعها الجيِّد دون اضطراب. لم تنضب خزينة الدولة على الرغم من سفه السلطان في الإنفاق. كلُّ هذه علاماتٌ «لثبات» الدولة العثمانية في هذا القرن. ستستمر هذه الاضطرابات في الدولة -كما سنرى- لثماني سنواتٍ أخرى؛ أي إلى عام 1656م، ومع ذلك فلن يتأثَّر ثبات الدولة. إنها دولةٌ لا تعتمد على رجلٍ بعينه، ولا تهتزُّ لعاصفةٍ عاديَّة، وبها من عوامل القوَّة الداخليَّة ما يحميها من مثل هذه الأزمات الشديدة[43].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/484.
[2] بچوي، إبراهيم أفندي: تاريخ بجوي إبراهيم أفندي: التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية، ترجمة وتقديم: ناصر عبد الرحيم حسين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015م الصفحات 2/404، 405.
[3] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 89.
[4] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.، 2008 صفحة 310.
[5] Isom-Verhaaren, Christine & Schull, Kent F: Living in the Ottoman Realm: Empire and Identity, 13th to 20th Centuries, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2016., p. 198.
[6] أوزتونا، 1988 صفحة 1/489.
[7] Kia, 2017, vol. 1, p. 89.
[8] Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1986.., 1986, vol. 5, p. 272.
[9] أوزتونا، 1988 صفحة 1/495.
[10] Uluçay, Mustafa Çağatay: Padişahların kadınları ve kızları, Ötüken, Ankara, Turkey, 2011., pp. 56-61.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/474.
[12] Yüce, Yaşar & Sevim, Ali: Türkiye tarihi, Akdtykttk Yayınları, İstanbul, 1991., vol. 3, pp. 85-87.
[13] Houtsma, Martijn Theodoor: E. J. Brill's First Encyclopaedia of Islam 1913-1936, Leiden, Brill, Netherlands, 1987., vol. 1, p. 435.
[14] Hammer, vol. 2, p. 231.
[15] مانتران، 1993 (ب) صفحة 1/360.
[16] Houtsma, 1987., vol. 1, p. 435.
[17] إقبال، 1989 صفحة 679.
[18] Görgün-Baran, Aylin: A Woman Leader in Ottoman History: Kösem Sultan (1589–1651), In: Erçetin, Şefika Şule: Women Leaders in Chaotic Environments: Examinations of Leadership Using Complexity Theory, Springer International Publishing, Cham, Switzerland, 2016, 2016, p. 80.
[19] سرهنك، 1895 صفحة 1/584.
[20] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., p. 111.
[21] Faroqhi, Suraiya: The Ottoman Empire and the World Around It, Bloomsbury Academic, 2006., p. 51.
[22] Setton, 1991, p. 124.
[23] أوزتونا، 1988 صفحة 1/492.
[24] Setton, 1991, pp. 126-129.
[25] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2006., p. 227.
[26] Setton, 1991, pp. 139-141.
[27] Spratt, Thomas Abel Brimage: Travels and Researches in Crete, John van Voorst, London, UK, 1865., vol. 2, p. 146.
[28] Houtsma, 1987, vol. 1, p. 435.
[29] Börekçi, Günhan: Ibrahim I (b. 1615–d. 1648) (r. 1640–1648), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (B). (B), p. 263.
[30] Hammer, vol. 2, pp. 237-238.
[31] Börekçi, 2009 (B), p. 263.
[32] Rézette, Robert: The Spanish Enclaves in Morocco, Nouvelles Editions Latines, Paris, France, 1976, p. 41.
[33] Kia, 2017, vol. 1, p. 90.
[34] أوزتونا، 1988 صفحة 1/489.
[35] Thys-Şenocak, Lucienne: Ottoman Women Builders: The Architectural Patronage of Hadice Turhan Sultan, Ashgate Publishing Company, New York, USA, 2006., 2006, p. 26.
[36] Houtsma, 1987, vol. 1, p. 435.
[37] Peirce, Leslie P.: Beyond Harem Walls: Ottoman Royal Women and the Exercise of Power, In: Walthall, Anne: Servants of the Dynasty: Palace Women in World History, University of California Press, Berkeley and Los Angeles, California, USA, 2008., p. 250.
[38] إبراهيم، 1856 صفحة 182.
[39] بروكلمان، 1968 صفحة 516.
[40] 557. Isom-Verhaaren, Christine & Schull, Kent F: Living in the Ottoman Realm: Empire and Identity, 13th to 20th Centuries, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2016, p. 199.
[41] أوزتونا، 1988 صفحة 1/496.
[42] Kia, 2017, vol. 1, p. 91.
[43] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 656- 666.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك