الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تُمثِّل الحريَّة قيمة مهمَّة وغاية عظيمة نادت بها العقائد المختلفة والحضارات المتعدِّدة، مع اختلاف تنوُّعاتها الفكريَّة والعقائديَّة، وهذا من جانبه
الحرية والتواصل بين الشعوب:
تُمثِّل الحريَّة قيمة مهمَّة وغاية عظيمة نادت بها العقائد المختلفة والحضارات المتعدِّدة، مع اختلاف تنوُّعاتها الفكريَّة والعقائديَّة، وهذا من جانبه يُعطي انطباعًا صادقًا بأنَّ قيمة الحريَّة من القيم المشتركة بين الإنسانيَّة جميعًا، وقد كانت الحريَّة والسعي لتحقيقها والنضال من أجلها، ومقاومة الاستعمار بشتَّى أنواعه وسيلة واضحة في التواصل بين الشعوب، وهو ما رأيناه أثناء الثورة الجزائريَّة ضدَّ الاحتلال الفرنسي التي دامت سبع سنوات؛ فقد شهدت تأييدًا ودعمًا دبلوماسيًّا وعسكريًّا وشعبيًّا واسعًا من البلاد العربيَّة والإسلاميَّة المختلفة، فعندما أدرك العرب والمسلمون مدى جدِّيَّة وأهميَّة الثورة الجزائريَّة كانت القاهرة ودمشق وبغداد وكلُّ العواصم العربيَّة والإسلاميَّة معتزَّة بها أيَّما اعتزاز، وكانت إذاعة صوت العرب من القاهرة صوتًا ناطقًا باسم الثورة، داعيًا لها مدافعًا عنها، مُرَغِّبًا في الالتفاف حولها والانضمام إليها، وكان له تأثير على المستمعين، حتى إنَّ الجزائريِّين أصبحوا يعتبرونه الناطق الرسمي للثورة الجزائريَّة[1].
وهو ما رأيناه كذلك في التعاطف الإسلامي الواسع في كلِّ مكانٍ على وجه الأرض مع المسلمين في فلسطين من أجل الحريَّة من المستعمر الصهيوني، ومع المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك من أجل الحريَّة من الاضطهاد الصربي، وكذلك التعاطف الدولي والإسلامي مع المسلمين المستضعفين في بلاد الشيشان وداغستان من الاضطهاد الشيوعي، ورأينا التعاطف الأميركي والدولي والإسلامي مع المسلمين في أفغانستان خلال حربها ضدَّ الدبِّ الروسي، كذلك مساندة مصر لحركات التحرُّر في إفريقيا من الاستعمار البريطاني والفرنسي وغيرها، إلى غير ذلك من النماذج المتعدِّدة التي كانت الحريَّة وسيلة للتواصل والانسجام بين الدول.
وقد أكَّدت المواثيق الدوليَّة أهميَّة الحريَّة في التواصل بين الشعوب والدول، فمع اختلاف الدول الموقِّعة عليها في العرق واللون والجنس والدين، إلَّا أنَّ قيمة الحريَّة وغيرها من القيم الإنسانيَّة العامَّة مثَّلت قاسمًا مشتركًا بينهم، وهذا كفيلٌ بمفرده أن يُقيم علاقات ودٍّ وصداقةٍ بين تلك الدول بعضها مع بعض، والعكس هو الصحيح؛ إذ عندما أهملت الدول الكبرى في العالم أهميَّة هذه القيم الإنسانيَّة العامَّة اندلعت الحروب والصراعات العالميَّة والإقليميَّة، وما أحداث الحربين العالميَّتين منَّا ببعيد! لذلك فعندما تكون ثقافة الشعوب قائمةً على احترام القيم الإنسانيَّة وعلى رأسها الحريَّة يكون ذلك طريقًا لانتشار السلام والأمان، وإنهاءً للحروب والنزاعات.
ومن أشهر المواثيق الدوليَّة التي نصَّت على احترام الحريَّات الأساسيَّة والحقيقيَّة للإنسان ما يُعرف بميثاق الأمم المتحدة، وما تفرَّع عنه من مواثيق أخرى؛ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى مواثيق واتفاقيَّات أخرى دوليَّة راعت جانب الحريَّات الأساسيَّة للإنسان، دون النظر إلى عرقٍ أو لونٍ أو جنس.
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة[2]:
وقد اتَّفقت الدول الموقِّعة على هذا العهد على أنَّ السبيل الوحيد لتحقيق المثل الأعلى المتمثِّل وفقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو أن يكون البشر أحرارًا، ومتمتعين بالحريَّة المدنيَّة والسياسيَّة، ومتحرِّرين من الخوف والفاقة، وكذلك متمتِّعين بالحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وكان من ضمن هذه المواد:
المادَّة (1):
1- لجميع الشعوب حقُّ تقرير مصيرها بنفسها. وهي بمقتضى هذا الحق حرَّةٌ في تقرير مركزها السياسي، وحرَّةٌ في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
2- لجميع الشعوب -سعيًا وراء أهدافها الخاصَّة- التصرُّف الحرُّ بثرواتها ومواردها الطبيعيَّة، دونما إخلال بأيَّة التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي، القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي، ولا يجوز في أيَّة حال حرمان أيِّ شعبٍ من أسباب عيشه الخاصَّة.
3- على الدول الأطراف في هذا العهد -بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئوليَّة إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية- أن تعمل على تحقيق حقِّ تقرير المصير وأن تحترم هذا الحقَّ، وفقًا لأحكام ميثاق الأمم المتَّحدة.
المادَّة (8):
1- لا يجوز استرقاق أحد، ويحظر الرقُّ والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.
2- لا يجوز إخضاع أحد للعبوديَّة.
3- (أ) لا يجوز إكراه أحدٍ على السخرة أو العمل الإلزامي.
المادَّة (9):
1- لكلِّ فردٍ حقٌّ في الحريَّة وفى الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحدٍ أو اعتقاله تعسُّفًا، ولا يجوز حرمان أحدٍ من حريَّته، إلَّا لأسبابٍ ينصُّ عليها القانون وطبقًا للإجراء المقرَّر فيه.
المادَّة (10):
1- يُعامل جميع المحرومين من حريَّتهم معاملةً إنسانيَّة، تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني.
المادَّة (18):
1- لكلِّ إنسانٍ حقٌّ في حريَّة الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريَّته في أن يَدِين بدينٍ ما، وحريَّته في اعتناق أيِّ دينٍ أو معتقدٍ يختاره، وحريَّته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حِدَة.
2- لا يجوز تعريض أحدٍ لإكراهٍ من شأنه أن يُخِلَّ بحريَّته في أن يَدِينَ بدينٍ ما، أو بحريَّته في اعتناق أيِّ دينٍ أو معتقدٍ يختاره.
3- لا يجوز إخضاع حريَّة الإنسان في إظهار دينه أو معتقده إلَّا للقيود التي يفرضها القانون، التي تكون ضروريَّة لحماية السلامة العامَّة، أو النظام العام، أو الصحَّة العامَّة، أو الآداب العامَّة، أو حقوق الآخرين وحريَّاتهم الأساسيَّة.
4- تتعهَّد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حريَّة الآباء أو الأوصياء عند وجودهم في تأمين تربية أولادهم دينيًّا وخُلقيًّا وَفقًا لقناعاتهم الخاصَّة.
المادة (19):
1- لكلِّ إنسانٍ حقٌّ في اعتناق آراء دون مضايقة.
2- لكلِّ إنسانٍ حقٌّ في حريَّة التعبير، ويشمل هذا الحقُّ حريَّته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار، وتلقِّيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود؛ سواءٌ على شكلٍ مكتوبٍ أو مطبوع، أو في قالبٍ فنيٍّ، أو بأيَّة وسيلةٍ أخرى يختارها.
3- تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة (2) من هذه المادَّة واجبات ومسئوليَّات خاصَّة؛ وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محدَّدة بنصِّ القانون، وأن تكون ضروريَّة:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
(ب) لحماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصحَّة العامَّة، أو الآداب العامَّة.
وبجانب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنيَّة والسياسيَّة هناك الكثير من الوثائق ذات الطابع الدولي، التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في إقرار الحريَّات العامَّة الخاصَّة بحقوق الإنسان؛ منها: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، الموقَّع عليه في 16 ديسمبر 1966م، والاتفاقيَّة الأوربيَّة لحقوق الإنسان الصادرة في روما (4 نوفمبر 1950م)، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر في كينيا (يونيو 1981م)، وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الصادر في القاهرة (5 أغسطس 1990م)، والميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر في تونس (23 مايو 2004م).
الاعتداء على الحريَّة:
بعد أن تَبَيَّنَتْ لنا -من خلال ما استعرضناه- القيمة الكبرى التي تُمَثِّلها الحريَّة في حياة الإنسانيَّة، وضرورتها في تحقيق رُوح الانسجام والتعايش بين الشعوب، ينبغي علينا أن نعلم خطورة الاعتداء على الحريَّة؛ سواءٌ على مستوى الفرد أو مستوى الشعوب؛ فهذا من جانبه يُورِثُ العدوان والعداوة والبغضاء؛ وبذلك تندلع الحروب، فيعمُّ الخراب والدمار، ليس على المعتَدَى عليهم فقط؛ بل على الإنسانية كلِّها، وإنَّ أحداث الحربين العالميَّتين وما أعقبتها من خسائر بشريَّة واقتصاديَّة وعمرانيَّة تُقَدَّر بالملايين لأبرز دليلٍ على ذلك، وإنَّ الدول التي عانت من الاستعمار ما زال أبناؤها يتوارثون البغضاء والكراهية لتلك الدول التي أذاقتهم ويلات العبوديَّة والذلِّ والمهانة، وإنَّ الدول التي تشنُّ الحروب من أجل استعمار الدول المستضعفة لا تهنأ بالعيش، وتعيش منبوذةً من دول العالم.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] عبدلي لخضر: مقال بعنوان "الثورة الجزائريَّة.. تحدي ونجاح"، موقع الفسطاط، على الرابط: www.fustat.com.
[2] اعتُمد هذا العهد وعُرض للتوقيع بموجب قرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة 2200 ألف (د-21) المؤرَّخ في 16 ديسمبر 1966م، تاريخ بدء النفاذ: 23 مارس 1976م، وهذا العهد كغيره من المواثيق الدوليَّة الأخلاقيَّة التي تحتاج إلى تفعيل دُولي لتحقيق الغاية التي من أجلها أُبرم. انظر موقع الشبكة العربيَّة لمعلومات حقوق الإنسان: www.anhri.net.
التعليقات
إرسال تعليقك